تنافست زوجة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون السناتورة عن ولاية نيويورك هيلاري كلينتون مع الرئيس الحالي جورج بوش على الاحتفال بما يسمى في الولايات المتحدة بـ «عيد الشكر». الأولى ذهبت إلى أفغانستان واحتفلت بالعيد مع الجنود هناك مؤكدة فشل «طالبان» وصعوبة عودة الحركة إلى الحكم. والثاني طار إلى بغداد لمدة ساعتين ليحتفل بالعيد مع جنوده لرفع معنوياتهم بعد سلسلة ضربات من المقاومة.
الخبر عادي إلا أن المعركة بين المتنافسين لن تكون كذلك في حال قرر الحزب الديمقراطي اختيار هيلاري مرشحته للرئاسة الأميركية.
والسؤال لماذا «الشكر» ولمن؟ هل هو شكر للقوات الأميركية التي تحتل أراضي الغير لحسابات استراتيجية كبرى لها صلة بالصراع الدولي والسيطرة على مصادر الطاقة واحتكار الثروة لمراكمة القوة ضد الدول الكبرى؟ أم هو شكر للنجاحات التي حققتها واشنطن في معركة مفتعلة وأزمات اخترعت لتلبية حاجات الآلة العسكرية التي يبدو أنها وصلت إلى درجة من التضخم لم يعد بإمكان الإدارة الأميركية وقف جموحها وتلبية طموحها؟
الشكر عادة يقدم على شيء أعطي من طرف آخر. فمن أعطى من في هذه الحالات؟ فالقوات الأميركية أخذت عنوة ولم يكن لها فضل سوى أنها نفذت أوامر هيئة التصنيع الحربي التي باتت تشرف على قرارات «البنتاغون». فالشكر يجب أن يقدم إلى حميد قرضاي في أفغانستان لأنه هو وأعوانه يسهلون ويساعدون ويمدون القوات الأميركية بعناصر البقاء. كذلك يجب أن يقدم إلى أعضاء «مجلس الحكم الانتقالي» في العراق لأنهم ساعدوا ووفروا الغطاء المحلي للحرب والاحتلال.
إلا أن «الشكر» لم يقدم لا إلى قرضاي في كابول ولا إلى المجلس الانتقالي في بغداد بل إلى القوات التي أرسلها «البنتاغون» لتنفيذ رغبات هيئة التصنيع الحربي ضمن حسابات كبرى.
وفي الحقيقة هذا هو المعنى الواقعي لكلمة «الشكر» في القاموس الأميركي. فهذا العيد لا تحتفل به أية دولة في العالم سوى الولايات المتحدة، وهو عيد عنصري ومقرف في معناه التاريخي والسياسي. فعيد الشكر هو اختراع أميركي بالكامل في دولة عُرِف عنها أنها نتاج تلاقح ثقافات وشعوب نزحت من أوروبا أولا ومن ثم من كل العالم ثانيا من طريق القوة (تجارة الرقيق) أو من طريق الرغبة في الكسب (أرض الطموح والأحلام).
عيد الشكر هو عيد أميركي بامتياز وهو استثنائي الظاهرة لأنه يذكّر بتلك الأيام حين اقتحمت جحافل أوروبا «الأرض الجديدة» حاملة معها سلاحها وأمراضها وجوعها وفقرها وثقافاتها ومذاهبها وطموحاتها وأحلامها هربا من حروب أوروبا وكوارثها ومصائبها.
إنه شكر لله كما تقول تلك المجموعات المتدينة النازحة من العالم القديم إلى العالم الجديد. وهو شكر لمن أعطى هذه الأرض الغنية والخصبة لشعوب تبحث عن منطقة تزرع فيها أحلامها وتبني فيها طموحاتها.
هذا هو الفصل الأول من مسرحية الشكر. أما الفصل الثاني المسكوت عنه في التاريخ فهو الوجه البشع للعيد. ففي الفصل الثاني يبدأ التاريخ الحقيقي (تاريخ الآخر) حين أخذت تلك الجحافل والمجموعات الأوروبية بارتكاب أكبر مجزرة في تاريخ الإنسانية. وهي مجزرة استمرت قرابة ثلاثة قرون اجتثت خلالها ثقافات يقال إنها تمتد جذورها إلى أكثر من ألف سنة وأبيدت شعوب وقبائل وأقوام يقدر تعدادها بأكثر من 70 مليون نسمة.
تحتفل الولايات المتحدة (وحدها في العالم) بكل فخر واعتزاز بعيد الشكر سنويا. وكل سنة تتطور طقوس الاحتفال وتختفي معها آثار تلك المجازر التي طاولت البشر والحجر. ففي عيد الشكر يعاد بناء التاريخ انطلاقا من تفريغ الذاكرة وحشوها بتلك الأساطير الكاذبة عن عالم جديد أعطاه الله هبة لتلك الشعوب الذكية والطامحة. فهو شكر بينما الحقيقة يجب أن يكون عيد اعتذار ويوم ندم ومناسبة للتكفير عما ارتكبه القوي من آثام وخراب ودمار بحق الضعيف المسكين صاحب الأرض الأصلي.
إلا أنها دائما حكاية المنتصر. فالمنتصر يكتب التاريخ. والتاريخ يسجل ولكنه ينسى أو يتناسى... ليبقى الشكر لمن انتصر وبقي على قيد الحياة. أما الأموات فلهم القبور التي يلفها النسيان.
هذا ما حصل في أميركا منذ «اكتشافها» في العام 1492 وما بعد. والسؤال هل ستكرر الولايات المتحدة ذكريات عيد الشكر في مناطق أخرى من العالم على منوال فعلتها في أرض «الهنود الحمر»؟ التاريخ لا يرحم وما نشهده في أفغانستان والعراق من احتفالات بعيد الشكر ربما يكون البداية... بداية احتفالات أخرى في مناطق جديدة. من يعلم
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 449 - الجمعة 28 نوفمبر 2003م الموافق 03 شوال 1424هـ