هو واحد من المفكرين الإسلاميين تثير قناعاته الفكرية في تفسيره لمجمل ما ورد في القرآن جدلا كبيرا بين أوساط المثقفين عموما ومشايخ الدين خصوصا. ومثلما اشتهر سَميّه أبو القاسم الطنبوري بحذائه الذي لم يتمكن التخلص منه كما ورد في الحكاية لم يتمكن أبو القاسم حاج حمد من التخلص من أفكاره التي حملها معه منذ السبعينات على رغم استنكار البعض بشدة أطروحاته الدينية خلال تفسيره للقرآن الكريم والسنة النبوية مثلما يستنكر البعض أطروحاته السياسية.
لكن هناك ثوابت عند هذا المفكر لا يغيرها بينما لديه متحركات قام بتغييرها.
من هذه المتحركات أن أبو القاسم مر بمراحل سياسية مختلفة وكان يحاول تطوير أفكاره مع التطورات الإقليمية والدولية والمحلية منذ أن كان ولايزال متحدثا بلسان جبهة التحرير الأرتيرية في بدايات الثلث الأخير للقرن الماضي قبل أن تتحرر بلاده وتنفصل عن اثيوبيا وأصبح في مرحلة ما داعية للفكر القومي خلال مرحلة حماسه بسبب اقتناعه بذلك كما يبدو في فترة الخمسينات والستينات عندما كاد معظم المثقفين متعلقين بمعشوقة واحدة هي ثورة 23 يوليو المصرية وقائدها عبدالناصر، وكان ذلك في زمن إبحاره في شلالات الساحة السياسية عندما كان يعمل مستشارا في وزارة الخارجية الإماراتية - إن لم أكن مخطئا - ويقال انه أصبح كذلك في مرحلة ما متحدثا بلسان منظمة التحرير الفلسطينية وهذا الأخير سمعته من دون أن أتيقن من ذلك... وكنت تشرفت بمعرفته منذ نهاية السبعينات عندما أصبحت أعمل في صحافة الإمارات وكنت العضو المنتدب من قبل مجلس الإدارة للنادي العربي الثقافي بالشارقة وأذكر أنني قدمته في محاضرة عن قضايا التربية والتعليم وكانت مقاربة في خروجه على المألوف كالمحاضرة التي ألقاها أخيرا في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث بالمحرق تحت عنوان جذاب للغاية هو (الإسلام والتعددية وشرعة السيف)، وأعترفُ مثلما اعترف الكثيرون غيري من الحضور أنني لم أستوعب المحاضرة ومرام المحاضر من أطروحته التي يكاد يختلف فيها مع الكثيرين من رجال الدين خصوصا وهو يعلن من دون أي تردد رفضه لثوابت معروفة لم يجرؤ أحد الخروج عليها من قبل، غير أن محمد أبوالقاسم حاج حمد الذي تحدى الجميع وأعلن رفضه أمام الملأ والتاريخ وشهود إثبات ذلك الحضور المكثف من الأكاديميين والكتاب والصحافيين الذين اختزلهم الزميل خالد أبو أحمد في عبارة «حضور نوعي».
أعلن محمد أبوالقاسم أنه لا يؤمن بأن هناك «ناسخ ومنسوخ» في الآيات القرآنية فبذلك جعل كل الآيات التي وردت في القرآن مفعّلة لكن من خلال قراءة مختلفة لا تتناقض كثيرا مع ذلك الطرح التقليدي المعروف ولكن قراءة تمزج الناسخ والمنسوخ في بوتقة واحدة عندما تحدث عن شرعة السيف التي وردت في القرآن الكريم وقال إن ذلك يتعلق بشرعة السيف وإفساح المجال للجهاد في المراحل المتقدمة ورأى أن القرآن الكريم أطلق ذلك في مراحل تاريخية معينة ومتقدمة ولا علاقة لها بمرحلة ما بعد الحقبة النبوية التي تحمل مسئولية توصيل الرسالة فيها واستمرت فترة 23 سنة عند تأسيس «الأمة الوسط» التي أكدها القرآن الكريم «وكذلك جعلناكم أمة وسطا» (البقرة: 143)، ونفى أن تكون مرحلة السيف لها علاقة بالتوسع العربي الامبراطوري. ورمى بتبعات ذلك على أشخاص لهم مصالح ومآرب شخصية في ذلك التوسع مشيرا إلى التعصب القومي في بعض الأحيان كما فهمت شخصيا من خلال حديثه، فجاء ذلك بناء على ضغط القبائل العربية المتعطشة للقتال من جهة والتوسع المصلحي من جهة أخرى ومن بين من كان لهم دور بارز في هذا الضغط من رؤساء القبائل (الأحنف بن قيس) ثم غزوات معاوية التوسعية في الدولة البيزنطية في عهد الخليفة عثمان بن عفان وسبقه عمرو بن العاص قبل ذلك في عهد الخليفة عمر بن الخطاب الذي رفض ذلك وأراد أن يمنعه من فتح مصر وعندما علم أن عمر أرسل رسولا إليه يريد منعه من دخول مصر طلب من أتباعه إبطاء الرسول فدخل مصر ولما وصله رسول عمر قال له ابن العاص: دخلت المعركة ولا يمكنني التراجع الآن.
المهم أن أبوالقاسم يرى أن لا علاقة للإسلام بهذه التوسعات (الفتوحات) وإنما جاء ذلك في إطار «حصر مقيد» في مرحلة ما وفي مواقع محددة في الحقبة النبوية وكمثال على ذلك استشهد بضرورة المقاومة الفلسطينية من منطلق «التدافع» مع الإسرائيليين الذين يقومون بمرحلة إفسادهم الثاني في الأرض كما ورد في القرآن الكريم وذلك للإخلال بمبدأ وحدة كيان «الأمة الوسط» بعد 14 قرنا.
وباختصار حسب فهمي أن الإسلاميين الفلسطينيين لم يكونوا يختارون السيف بل ولم يكن مسموحا لهم ذلك دينيا لولا الاعتداء الإسرائيلي المسبق على أرضهم وليت شارون وبقية أزلامه يدركون جيدا ذلك ويعرف الشعب الإسرائيلي والرأي العام الأميركي والأوروبي أن تباكي القيادة الإسرائيلية في أن عدوانهم يأتي من قبيل الدفاع عن النفس، إن الإسلام يرفض استخدام العنف إلا عند التصدي للعدوان، وانتهت مرحلة السيف عند أمة الوسط مع نهاية الحقبة التاريخية في حياة الرسول (ص).
وقد استند أبوالقاسم على ذلك بأن المنطق يقول إنه لا يمكن أن يكون لأمة الوسط من أن تجمع بين مركزيتين: مركزية في مكة وأخرى في القدس، والتشتت بين الأرض الحرام في مكة والأرض المقدسة في القدس.
وعند طرحه الأخير تجمد مخي وما أقوله هو مجرد اجتهاد مني كما فهمت حسب استيعابي، لذلك أحاول طرحه أمام القارئ، فقد رأى أن وجود عاصمتين معا لدولة إسلامية مترامية الأطراف بعد أن تحول بأمر إلهي مركز الثقل إلى المكان الذي فيه نبي الأمة وخصوصا في غياب مواصلات صعبة واتصالات أصعب في تلك الحقبة التاريخية حين كان قطار الاكسبرس الوحيد هو الجمل وبذلك جعل الله الأرض الحرام مكة المكرمة هي العاصمة دون الأرض المقدسة رحمة بهذا النبي ما يعني أنه لا مانع للشعب الفلسطيني المسلم وخصوصا الإسلاميين الجهاديين لو أبدوا بعض المرونة إن أمكن لحل هذه الإشكالية التي طال أمدها في زمن رديء مثل هذا الزمان الذي يسيطر عليه الطغيان والاستبداد الأميركي والطغيان والاستبداد الشاروني في مرحلة الفساد الثاني لإسرائيل إذ يرى كذلك وهذا قد يكون مثار انزعاج المسلمين لأنه طرح يسمح بالتعايش مع أصحاب الديانات الأخرى كالمسيحيين واليهود حيث يقول: وهنا نجد ارتباطا عضويا بين مكانين الأرض «الحرام» وما حولها، والأرض «المقدسة» وما حولها، فقد توجهت النبوة والرسالة الخاتمة في مبتدأ دعوتها للأميين العرب والكتابيين على حد سواء فكانت القبلة باتجاه الأرض المقدسة واستمرت على هذا النحو إلى تاريخ 15 شعبان من السنة الثالثة للهجرة، حيث خص الله سبحانه وتعالى الأرض المقدسة وما حولها بانبعاث معظم النبوات وباركها بهم ثم دمجها في الأرض الحرام امتدادا ورسخ هذا الدمج بالإسراء والمعراج إلى المسجد الأقصى بزيارة الرسول (ص) إلى العاصمة السابقة لإثبات أن هذه الأرض المقدسة امتداد للأرض الحرام العاصمة الجديدة للنبوة وأن الأخرى بمثابة عمق استراتيجي للأولى.
لكن الذي يجب أن يظل في الذاكرة التي أختلف مع المفكر أبوالقاسم أن الأرض المقدسة (القدس) التي باركها الله سبحانه وتعالى بوجود كل الأديان السماوية عليها لالتقاء الأنبياء فيها يعني أمرا واحدا حسب اعتقادي هو حق الجميع في أداء شعائرهم الدينية كل كتابي في موقعه المخصص له وأن تكون الوصاية لصاحب الدين «الخاتم» من منطلق لا ضرر ولا ضرار. أما ما يجري اليوم هو ليس مجرد مطالبة بحثّ اليهود في أداء شعائرهم كحق تاريخي لهم بل هو حرب إبادة لصاحب الوصاية ما يعني أن هناك عدوانا لإبادة «أمة الوسط» واحتلال موقعها الشرعي وما يعني كذلك خطر طرح الفكر الذي يحمله أبوالقاسم أن الأرض المقدسة التي يرى أنها ملك لكل أصحاب الديانات ولكل فيها حق معلوم فإن هذا الاعتراف من قبل مفكر إسلامي قد تستغله «إسرائيل» كشاهد إثبات لها وإكساب عدوانها شرعية لا حقيقة لها، أو لا تريد الاعتراف بها حقا كان أم باطلا.
أما في جمع الفكر بين المتناقضات فقد برزت من خلال بعض كتاباته السياسية عدا الدينية التي ذكرناها، نقرأ ذلك خلال أكثر من مقال كتبه عن نظام «الانقاذ» السوداني وتكتيكاته السياسية التي كتبها عن «الجمع بين النقيضين: أحادية الاستمرار وفك الحصار» ذلك المقال الذي كتبه بتاريخ 8/9/2002 في صحيفة «الوسط» إذ يقول:
«في موازاة جون قرنق، لا يقل الإنقاذيون «دهاء» ومكرا، بعد أن ذاقوا مرارة عزلتهم سودانيا وإقليميا وعربيا ودوليا، فقد أخذوا بالاستئساد على دول الجوار الإقليمي ضمن توهمات مشروعهم الإسلامي الحضاري العالمي فجعلوا منه غزوا لها وحاولوا اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في اثيوبيا بتاريخ 25 مايو /أيار، 1995 فحوصروا إقليميا، ومهما كان الانفراج الراهن فهناك محاذير. وعربيا حوصروا إثر مواقفهم التي أخذتها عليهم سلبا دول مجلس التعاون الخليجي أثناء وبعد الغزو العراقي للكويت العام 1991».
إن الإنسان يوافق جدلا أن جبهة الإنقاذ أوردت السودان إلى الخراب بسبب التكتيكات التي ذكر أنها توازت مع حركة قرنق في تكتيكاتها التي لا يشك أي مثقف عربي أنه من تخطيط مستشار قرنق منصور خالد المعروف بتوجهاته الأميركية لكن الذي لا يوافق عليه ويرى أن أبوالقاسم وقع في تناقض كبير عندما رمى بكل الثقل على جبهة الإنقاذ، فـ «الإنقاذ» على رغم أنها تتحمل العبء الأكبر، فإنها ورثت الكثير عن العهود السابقة مثل الصراع بين الجنوب والشمال، وفي محاولة اغتيال الرئيس المصري لم تتضح الصورة بشكل واضح وجلي أن وراءها جبهة الإنقاذ بل هناك شكوك في أن الفاعلين الحقيقيين هم مصريون على رغم إيواء الإنقاذ لهم. فهذه العزلة التي وضعت السودان نفسها فيها كان فيها اختلاق لقضية من بينها الرغبة في استعادة حلايب من السودان وكانت القيادة السودانية حكيمة في تعاملها مع الموضوع حين قالوا خذوا حلايب وأكثر منها، ما يعني أنهم لم يكونوا يرغبون في المواجهة أصلا، ثم موقفهم من العدوان العراقي المؤيد لصدام على رغم رفض كل الشرفاء وكل المنصفين بل ومعظم الشعب العربي وإدانته فإنهم لم يكونوا بدعة بين غيرهم، بل جاء ذلك من خلال سياق اتسعت دائرته لتشمل اليمن وتونس والأردن ودولا عدة أخرى ولا يمكن إلقاء اللوم على الإنقاذ وحدها فهم خدعوا ضمن مجموعة المخدوعين بادعاءات صدام القومية.
فجمعه بين ضرورة التغيير في السودان وانتقاده لجبهة الإنقاذ بهذه القسوة كأنه جمع بين المتناقضات، ثم حديثه السابق عن الجمع بين نقيض الحوار والسيف أمر وإن كان يتمشى مع المنطق حسب تفسيره وله مبرراته المقنعة إلا أن مواطن نقده للنقاط التي ذكرها في جمعه بين قناعته بضرورة التغيير في السودان والمآخذ التي وجدها على جبهة الإنقاذ بعد التغيير يطرح بعض الاستفهام من خلال رؤاه السياسية والدينية بقراءته الجديدة للقرآن. ومهما يكن من أمر فإن المفكر محمد أبوالقاسم حاج حمد نجم بارز وجريء في طرح رؤى إسلامية وسياسية جديدة - حتى ولو اختلفنا معه - وعنصر مرن وقادر على التغيير مع التطور الزمني. فبقدر ما يبقي على ثوابته الفكرية وهي ضرورة النظر إلى مختلف القضايا من خلال نظرة استراتيجية مرنة من دون الشعور والإحساس بلوم البعض مادامت تلك التبدلات الفكرية تساير المنطق ومصلحة الأمة الإسلامية والعربية
العدد 448 - الخميس 27 نوفمبر 2003م الموافق 02 شوال 1424هـ