الأزمة التي بدت قبل أسابيع قليلة قيل إنها في طريقها إلى الانفجار، بين إيران وواشنطن، عبر وكالة الطاقة الذرية، انتهت أمس إلى التجميد. مصلحة كل الأطراف المعنية بها فضت بوضعها في الثلاجة إلى حين، من خلال صيغة، نجحت في تطويقها وحفظت ماء الوجه للجميع. وبذلك خرج كل طرف رابحا ولو على طريقته ومن زاوية حساباته. إيران تمكنت من نزع فتيل تفجير الأزمة، وبالتالي من تفويت الفرصة على صقور واشنطن الساعين لاستهدافها. إدارة الرئيس بوش كانت لها ما أرادت لناحية تجميد العمل بالمشروع النووي الإيراني واحتمالات إنتاجه للقنبلة، وإخضاعه لمراقبة مشددة ومفتوحة، والأوروبيون حصدوا الغلة الأوفر وكانوا الرابح الأكبر، من خلال نجاحهم في لعب دور الوسيط الذي حقق لجم اندفاع إدارة بوش من جهة وحمل طهران على القبول بوقف تطوير مشروعها لكن الأطراف الثلاثة تعرف أن الحل مؤقت على الغالب وأن الربح المتحقق مهدد، والصيغة التي تقاطعت عندها المصالح قضت الظروف الراهنة بقبولها، وبالتالي فإن الأزمة في أحسن الأحوال جرى تأجيلها، حتى إشعار آخر.
من البداية أتى فتح هذا الملف في سياق سياسة التأزيم التي تعتمدها إدارة الرئيس بوش في المنطقة. أو بالأحرى في سياق بحث هذه الإدارة عن ذرائع لحروبها ومواجهاتها المتجولة في الشرق الأوسط، منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2001. فهي التي بادرت وطالبت، أكثر من مرة خلال الأشهر الماضية، وكالة الطاقة الذرية باتخاذ موقف يدين إيران ويأخذ عليها انتهاكها لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. وأرادت واشنطن من مثل هذه الإدانة أن تؤدي إلى إحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي تضعه أمام وجوب التصويت على قرار يقضي بفرض عقوبات اقتصادية على إيران. أو على الأقل بتبرير اللجوء إلى مثل هذا الإجراء. سبق ذلك مطالبات أميركية بإخضاع إيران لعمليات تفتيش شامل صارم ومفاجئ، لجميع منشآتها النووية.
تحت الضغط تحركت وكالة الطاقة الدولية في هذا الاتجاه ودعت طهران إلى التوقيع على بروتوكول ملحق يجيز مثل هذا التفتيش، وكذلك للكشف عن حقيقة صناعتها النووية السرية. وكانت الوكالة أصدرت تقريرا يشير إلى مثل هذا التصنيع الذي يسمح بالوصول إلى امتلاك السلاح النووي.
تنبه الأوروبيون إلى اللعبة الأميركية. وهذه المرة وقفت بريطانيا في صفهم، وبدأوا بتنفيس الأزمة. دخلوا على هذا الخط من باب اقناع واشنطن والوكالة بمنح إيران مهلة حتى نهاية أكتوبر 2003 للرد على هذه المطالب. ثم سارع وفد الوزراء الثلاثة: الفرنسي والألماني والبريطاني، إلى طهران لحملها على التجاوب. اعترفت إيران بتخصيب اليورانيوم وارتضت التوقيع على البروتوكول.
يذكر أن معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية - إيران عضو فيها - لا تحظر تخصيب اليورانيوم، شرط إطلاع وكالة الطاقة على ذلك لمراقبته ومتابعته. فهو يصلح للأغراض المدنية بقدر لزومه لصنع القنبلة. ولذلك فإن التخصيب بحد ذاته ليس الدليل القاطع على السعي لامتلاك القنبلة.
إدارة الرئيس بوش تمسكت بالاعتراف الإيراني وعملت من «الحبّة قبّة». لكن وكالة الطاقة أصدرت أخيرا تقريرها في الموضوع، فذكرت التخصيب لكنها اعترفت بعدم وجود الدليل الذي يثبت أن إيران كانت تسعى من خلاله إلى تصنيع القنبلة.
قامت قيامة واشنطن على الوكالة ومديرها وتقريرها. لم يكن بمقدورها دحض خلاصة تقرير هذه الأخيرة. لكنها مع ذلك أرادت إحالة الملف إلى مجلس الأمن، لأنه «من المستحيل» تصديق النتيجة التي توصلت إليها الوكالة في هذا الخصوص! عند هذه النقطة عادت القضية إلى دائرة الأزمة المعقدة التي تهدد بالانفجار، وخصوصا بعدما هددت طهران بالتراجع عن موافقاتها إذا نزل تقرير الوكالة والموقف الأوروبي، عند الرغبة الأميركية.
لكن كما أن التعقيد في هكذا حالات مفتوح على التأزيم، فهو أيضا مفتوح على الانفراج. البدائل والخيارات والمناورات باتت شبه معدومة، في ضوء المعطيات الراهنة. فكان التقرير المتشدد الذي ارتضى به كل الفرقاء، رقابة ومتابعة صارمتين للبرنامج النووي الإيراني، من غير عرض الموضوع على مجلس الأمن.
طبعا، عند هذا المفصل، انتهت هذه القضية، من دون أن تطوى صفحتها نهائيا. إعادة فتحها، قضية وقت ليس إلا. الولايات المتحدة وافقت على هذا المخرج، لأنها محشورة بالعراق الآن من جهة، ولأن العالم كله - طبعا ماعدا «إسرائيل» - ليس إلى جانبها في هذه المواجهة. فالتفتيش عن الأسلحة عملية سريعة العطب، توفر للمتربصين فرصا لمراكمة أو افتعال الذرائع، التي يمكن توظيفها للحديث عن وجود انتهاكات، وبالتالي فتح باب الأزمة من جديد. وسابقة العراق شاهد حي في الذاكرة. وحتى لو لم تتوافر أية مآخذ على تعاون إيران مع التفتيش، فإن بوسع واشنطن العودة دائما إلى المعزوفة التي رددها المسئولون الأميركيون والتي تقول إن إيران ليست في حاجة إلى مشروع نووي أصلا، ناهيك بالتخصيب ولو لأغراض مدنية، على أساس أنها تملك ما يكفي من موارد الطاقة الكافية لاحتياجاتها في هذا المجال. بالإضافة إلى ذلك هناك العامل الإسرائيلي الذي لعب دورا رئيسيا في تسخين هذا الملف، ومازال.
وتشير تصريحات المسئولين الإسرائيليين الأخيرة إلى أن تل أبيب عازمة على بذل كل المحاولات ولعب الأوراق الميسورة كافة لـ «فركشة» أية تسوية أو صيغة تبقي على البرنامج الإيراني، حتى ولو تم تجميده. وكانت تقارير صحافية نسبت حديثا إلى مصادر إسرائيلية قولها إن الكيان الصهيوني أعدّ الخطط العسكرية اللازمة لضرب المنشآت النووية الإيرانية. وإذا كان ذلك في عداد الأمور المستبعدة في المدى القريب، لأن أميركا المشغولة بالعراق والمتحفزة لتسخين الملفين السوري واللبناني لن تسمح به وسط هذه الاستحقاقات، إلا أنه ليس في عداد الخيارات الملغية. فالمسألة بالنسبة إلى واشنطن ولـ «إسرائيل» ليست فقط مسألة خصومة مع نظام إيراني تريدان تغييره. بل هي مسألة عدم السماح لأحد - إذا أمكنهما ذلك - بكسر الاحتكار الإسرائيلي النووي في المنطقة. وطالما أن واشنطن متمسكة بهذا الاحتكار، وأن المنطقة، متمثلة بهذه الدولة حينا أو بتلك حينا آخر، مصممة على كسره بصورة أو بأخرى، فإن المشكلة تبقى محكومة بالتجدد عاجلا أم آجلا
العدد 448 - الخميس 27 نوفمبر 2003م الموافق 02 شوال 1424هـ