أسهم المخضرمون من فرق المعتزلة في كشف الكثير من الأفكار الباطنية لحركة الاعتزال. فتلك الكتلة من الشيوخ شهدت عصر الازدهار وعاشت في كنف الدولة وفي الآن ذاقت طعم الذل حين طرد رؤساء الفرق من ديوان الخلافة فاخذوا يبحثون عن مصادر للرزق خارج دائرة التحالف مع الخليفة.
حاول المخضرمون بداية المساومة مع الدولة لحماية بعض المكاسب والاحتفاظ بالحد الأدنى من هيبتهم فوجدوا الصد والرد.
بعد المساومة انتقلوا إلى نقد المعتزلة لعل في هذا ما يجد شفاعة عند الخلافة الا ان أصحاب الدولة كانوا في حالات انقسام وانشقاق ولم يكن عندهم الوقت الكافي لاضاعته في الاستماع إلى أفكار لا يعرف أصلها من فصلها. الا ان أهمية تلك الكتابات التي لم يستمع اليها أصحاب الدولة كان لها أثرها التأريخي وتكوين قواعد عمل جديدة للاجتهاد في الرد على أفكار المعتزلة في الاجيال اللاحقة.
فهذه الملاحظات والانتقادات قدمت ذخيرة فكرية لشيوخ المعتزلة ولخصومهم في الفترات المقبلة، الأمر الذي أسهم في تسهيل المواجهة الفكرية (الايديولوجية) التي نشبت في مطلع القرن الرابع للهجرة وانتهت بهزيمتهم العقائدية بعد هزيمتهم السياسية.
جيل المخضرمين إذا كان له شأنه الخاص في لعب دور لم ينتبه له في لحظة الطرد من الدولة والبحث عن بدائل عملية تشكل مصادر رزق لشيوخ اعتادوا الاعتماد على ديوان الخليفة في العيش والتفكير. ويأتي في طليعة هذا الجيل، اضافة الى الجعفرين والاسكافي، عباد بن سليمان الضمري وشيخ المرتدين على المعتزلة الجاحظ.
عرف أصحاب عباد بن سليمان بفرقة العبادية. وأهمية العبادية انها تنتمي في فروعها الى مدرسة الغوطي. فابن سليمان كان أحد تلامذة الغوطي ولكنه كعادة أهل الاعتزال خالف شيخه في أشياء وأسس فرقة مستقلة عنه. فشيخه قال «ان العباد خالقون لأعمالهم». وعباد قال «لا يجوز ان يقال ان الله خلق المؤمنين، لأنه خلق الكافرين. ولكن يقال خلق الناس أجمعين، وذلك ان المؤمن انسان وايمان، والكافر انسان وكفر». (الفخري، تلخيص البيان، ص 102 - 103).
فصفة الانسان برأي عباد بن سليمان تجمع بين المؤمن والكافر لأن الصانع برأيه «عالم قادر حي، ولا اثبت له علما، ولا حياة، ولا اثبت له سمعا»، كما ينقل عنه الاشعري في «مقالات الاسلاميين». فالصانع كما قال عنه «خلق الخلق، لا العلة»، فالعلة هي من صنع الانسان (الكفر أو الايمان). فالاعراض برأيه لا تدل على الخالق ولا على النبوة، وانما تدل على القرآن، فالقرآن بزعمه هو «الاعراض».
يصنف عباد بن سليمان في الطبقة السابعة في المعتزلة فهو عاصر هشام الغوطي (توفي سنة 225 هجرية/ 839م) واخذ عنه ثم خالفه. وأهميته ليس في الاضافات التي وضعها على أفكار شيخه بل في الدور الذي لعبه في الحياة السياسية العامة في عهود كانت فيها الدولة تميل الى دعم افكار المعتزلة وتشجيعها. كذلك عاصر الجاحظ الذي يعتبر عن حق أحد أهم العلامات الفارقة في تلك الحركة وابرز من دافع عنها ثم انشق عنها وأخيرا انقلب عليها بعد انقلاب الدولة وكتب ضدها شارحا أفكارها ومفندا خفاياها الايديولوجية.
توفي عباد بن سليمان في 250 هجرية/ 864م وهي السنة التي يقال ان الجاحظ توفي فيها. وهناك من يقول أن الجاحظ عاش الى العام 255 هجرية/ 869م في البصرة بعد صراع مرير مع امراض اجتاحته سلم منها ولم يسلم من سقوط مكتبته عليه فقتل تحتها وهو في عمر قارب القرن من السنين.
أهمية الجاحظ عظيمة في تاريخ الفكر الاسلامي فهو عالم عصره في الكثير من الحقول وفي مختلف الفصول. فهو عاصر عز الدولة منذ مطلع صعودها فصعد معها مستفيدا من ازدهار فكر المعتزلة وسقط مع المعتزلة في لحظة انقلابية لم تسعفه معارفه في انقاذ سمعته والاحتفاظ بدوره الخاص. فالجاحظ فعلا هو ضحية من ضحايا المعتزلة، لانه محسوب عليها ولكنه أكبر من فرقها جميعا. فالاعتزال هو لحظة في حياة الجاحظ وعمره المديد - عاصر قرابة 12 خليفة وشهد عليهم ومنهم - سجل تاريخي للدولة وشاهد على سلسلة عصور اتسمت بالقوة والضعف وعرفت الكثير من الفتوحات والاختراقات.
احتار المؤرخون وكتّاب الفرق والملل والنحل في أي معسكر يصنفون الجاحظ. فهو من المعتزلة وضدهم، وصاحب فرقة عرفت باسمه ثم ارتد عليها ورد على اصحابه وفند الكثير من الاخطاء والانحرافات في تفكيرهم. وهو ايضا عالم كبير وعارف للكثير من حقول المعرفة واسهم ايضا في تأسيس المدارس على مختلف المستويات الادبية والنقدية والنحوية ونسبت إليه الكثير من الآراء التأسيسية في مجالات مختلفة من الفكر والفلسفة. فالجاحظ فعلا ليس ضحية الدولة بل ضحية المعتزلة حين ذهب ريحه مع ذهابها أو ارتحالها عن ديوان الخلافة.
الجاحظ كان الوحيد من شيوخ المعتزلة الذي تميز بالجرأة السياسية والشجاعة النقدية فاقدم على نقد أفكار تلك الفرق وفند مدارسها واتجاهاتها وفكك عناصرها من الداخل مستفيدا من كونه أحد رجالها وأركانها وأحد الشهود الثقات على أفعالها وأعمالها. فالجاحظ في هذا المعنى لم يرتد عن المعتزلة بل كشفها محاولا تجاوزها للتكيف مع عصر جديد وانبعاث حركة فكرية مغايرة، وللأسف لم تلق حركته تلك استجابة من الخليفة المتوكل. إذ قبل تراجعه وندمه ولكنه رفض ان يعود الى ديوانه ويقال ان صده يعود الى بشاعة خلقته. فأمر له المتوكل بالعطاء وأغرب وجهه عنه وطلب عدم دخوله مرة أخرى إلى ديوانه.
كان الجاحظ كما يقول الشهرستاني عنه «من فضلاء المعتزلة والمصنفين لهم. وقد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة، وخلط وروّج كثيرا من مقالاتهم بعباراته البليغة، وحسن براعته اللطيفة» (الملل والنحل، الجزء الاول، ص 75).
كتب الجاحظ وصنف عشرات المؤلفات وكلها تميزت باسلوبه الخاص وبلاغته وقدرته على التكثيف. ومن كثرة مؤلفاته التي طاولت مختلف الحقول والشئون اتهمه لاحقا المسعودي في كتابه «مروج الذهب» بالسرقة (حاطب ليل) لكثرة مصنفاته. الا ان الجاحظ تميز عن غيره من المعتزلة بالقدرة على التكيف وعدم تشدده واستعداده الدائم للمساومة والتسوية. وهذا امر اخذه عليه اصحابه وخصومه فاتهم بالانتهازية واثير ضده الكثير من المعارك والردود فهاجمه ابن الراوندي (الملحد) وشنع عليه في كتاب اطلق عليه «فضائع المعتزلة».
إلى الملاحدة تعرض الجاحظ إلى حملات من اصحابه المعتزلة كذلك إلى انتقادات من الائمة والعلماء والفقهاء بسبب «مذهبه» الفلسفي إذ كان «مذهب الفلاسفة في نفي الصفات» وكان ايضا يميل الى «الطبيعيين» منهم اكثر من ميله الى «الإلهيين». فهو عموما انكر أصل الارادة ورأى ان المعارف كلها طباع، وصنف الناس الى فئتين «عالم بالتوحيد، وجاهل به. فالجاهل معذور، والعالم محجوج».
هذه الأفكار والردود عليها اعطت الجاحظ خصوصية في الفكر الاسلامي فهو من المعتزلة وضدهم والمعتزلة منه وضده. وفي الحقيقة ان الجاحظ أكبر منهم إذ كسبوا كثيرا حين التحق بهم وخسر كثيرا حين هزموا في الدولة ثم في معاركهم الفكرية. وهذه مأساة وهي واحدة من أصناف كثيرة عانى منها.
هذا المفكر الخاص يحتاج الى قراءة مستقلة عن فرق المعتزلة. فمدرسته التي اطلق عليها الجاحظية احيانا والعثمانية أحيانا أخرى تحتاج الى عناية نظرا لتشعب علوم الجاحظ واتساع معارفه وتنوع الحقول التي خاض غمارها. فاعماله لاتزال متداولة الى ايامنا محافظة على روحها على رغم مرور نحو 1200 سنة على كتابتها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 448 - الخميس 27 نوفمبر 2003م الموافق 02 شوال 1424هـ