وسط تصفيق الجنرالات وحضور رجال الأعمال صدق الرئيس الأميركي جورج بوش على موازنة للدفاع بلغت 401 مليار دولار للسنة المقبلة. الموازنة العسكرية الجديدة هي الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة إذ يبلغ الإنفاق على الدفاع أكثر من مليار ومئة مليون يوميا. وهذا بحد ذاته مبلغ مخيف بكل المقاييس والحالات لأنه يؤكد من جديد ازدياد نفوذ المؤسسة العسكرية (البنتاغون) في صنع القرار الأميركي ودورها المتعاظم في رسم السياسة الخارجية.
وعسكرة السياسة في الولايات المتحدة تعني الكثير من الأشياء لأنها أولا تقتطع أو تجمد الموازنات القطاعية الأخرى (الصحة، التربية، الضمان الاجتماعي) لمصلحة قوة نامية تسيطر على الاقتصاد ونفوذه نحو المزيد من الحروب. ولأنها ثانيا تميل إلى ترجيح كفة على أخرى في التوازن الداخلي للاستثمار الأمر الذي يوسع الرقعة الاجتماعية للعائلات التي تعتمد على الصناعة العسكرية والتشجيع على الانخراط في الجيش أو الخدمة في هيئات ومنظمات تابعة لأجهزة الأمن والمخابرات. فالميل نحو عسكرة الاقتصاد يعني المزيد من الميل لعسكرة السياسة وبالتالي تتحول استراتيجية «الحروب الدائمة» وتكتيكات «الضربات الاستباقية» إلى حاجة ميدانية لتلبية حاجات التصنيع العسكري وتأمين المواد الخام له، إضافة إلى تبرير النفقات الهائلة لدافع الضرائب الأميركي. وحين تتحول العسكرة إلى اقتصاد تصبح الحروب ضرورة سياسية لتغطية كل تلك النفقات المتضخمة على مستوى القطاع العسكري وآلات الحرب والتدمير.
الخطر إذا ليس في الموازنة الدفاعية الهائلة فقط بل في النتائج السياسية المترتبة عنها دوليا، وكذلك في تأثيرها على القطاعات الانتاجية في الداخل الأميركي أيضا. فالزيادة في النفقات تعني اقتصاديا توسيع رقعة الانتاج العسكري وكذلك تعني انخراط المزيد من العائلات في العمل في هذا القطاع الأمر الذي يوسع من نسبة الفئات التي تعتمد على التصنيع العسكري ومؤسسات الأمن كمصدر دخل ورزق.
هذا هو الخطر المقبل. فالخطر ليس في موازنة بل تكرار تلك الموازنات سنويا وانتقال شركات الاستثمار والتمويل من التوظيف في القطاعات الأخرى إلى الاعتماد على قطاع واحد كأساس للانتاج... الأمر الذي يجعل الاقتصاد الأميركي في المستقبل أسير أنشطة عسكرية تجر الحروب وراء الحروب والويلات وراء الويلات بذريعة حماية المصالح القومية العليا وحفظ الأمن الوطني.
لا شك في أن إدارة بوش استغلت ضربة 11 سبتمبر/ أيلول واستفادت من تداعياتها لتبرير رفع موازنة الدفاع بعد أن نجح الرئيس السابق بيل كلينتون في خفضها سنويا من 365 إلى 265 مليارا خلال فترة حكمه لمدة 8 سنوات، الأمر الذي أثار غضب مؤسسات الأمن وقطاعات التصنيع الحربي ضده.
إلا أن ثأر بوش لضربة 11 سبتمبر وانتقامه من سلفه كلينتون فاق كل التصورات إذ نجح ليس في تحسين موقع الدفاع (البنتاغون) في تقرير السياسة الخارجية فقط، بل عمد إلى تمرير سلسلة مشروعات قوانين وافق عليها الكونغرس تحت ضغط الضربة ووهجها وكلها تنص على مواد تحد من حريات المواطن الأميركي بذريعة مكافحة الإرهاب.
الآن، وبعد مرور أكثر من سنتين على الضربة، استفاق بعض أعضاء الكونغرس (النواب والشيوخ) من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على معنى الكارثة التي حلت بالولايات المتحدة. فالكارثة ليست تلك التي وقعت في نيويورك وواشنطن فقط بل في تلك الإجراءات وسلسلة القوانين التي وافق عليها الكونغرس بغالبية كاسحة وتبين لاحقا انها ليست موجهة إلى الخارج بل هي في أساسها تطاول المجتمع الأميركي وتحد من حرياته وتعطي للمؤسسات الأمنية حق المراقبة والتدخل من دون إذن مسبق ومن دون علم المواطن أو الشركة أو الهيئة. فالقوانين استحدثت لمواجهة المخاطر الخارجية وتبين لاحقا أنها أساسا موجهة للداخل ويمكن استخدامها في مختلف الحالات والظروف من دون حواجز أو قيود أو اعتراضات. فالمعركة الخارجية هي وجه من وجوه الحرب الداخلية ضد الكثير من الحريات التي عرفت بها الولايات المتحدة في عقودها الأخيرة.
أميركا إذا تمر في فترة اختبار جديدة ويبدو أنها باتت أسيرة قوانين استحدثت لفرض رقابة على الداخل بذريعة حماية أمن المواطن من هجمات خارجية. والموازنة التي وقعها بوش بحضور رجال أعمال الصناعة العسكرية ووسط تصفيق الجنرالات هي واحدة من مؤشرات عسكرة السياسة وتحويل النهج المغامر في العالم إلى حاجة اقتصادية أهلية وصناعية لا يمكن الاستغناء عنها إلا بعد عمليات جراحية صعبة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 447 - الأربعاء 26 نوفمبر 2003م الموافق 01 شوال 1424هـ