أصبح الأمر أكثر وضوحا. فالولايات المتحدة تريد أن تدمج منطقة المغرب العربي ضمن استراتيجيتها الدولية والإقليمية. فهي من جهة تعمل من أجل إشعار الأوروبيين، وفي مقدمتهم الفرنسيون، بأنهم لا يستطيعون بناء قوتهم بمعزل عنها أو على حساب مصالحها وطموحاتها القائمة على الهيمنة واحتكار المبادرة على جميع الأصعدة. أما إقليميا فإن آخر خطاب للرئيس بوش يؤكد من جديد أن واشنطن مصرة على إعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط، ولهذا قامت منذ فترة بتوسيع مفهوم الشرق أوسطية، إذ أصبحت دول شمال إفريقيا جزءا من هذا المفهوم الجغراسياسي، وهي حاليا تريد أن تجعل من المغرب العربي منطلقا إضافيا لإحداث هذه التغييرات. ومن أجل ذلك توالت في السنوات الأخيرة، وخصوصا بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، زيارات كبار المسئولين الأميركيين إلى هذه المنطقة. وكانت آخرها الجولة المغاربية الأخيرة التي قام بها وكيل وزارة الخارجية الأميركي لشئون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (وليم بيرنز) وقادته إلى كل من تونس والجزائر والمغرب.
أول ما يلاحظ في هذا السياق أن جولة (بيرينز) جاءت قبل فترة وجيزة من انعقاد قمة «5+5» التي ستحتضنها تونس خلال شهر ديسمبر، وذلك من أجل أن تثبت واشنطن لدول المغرب العربي أنها تؤيد تعاونها مع أوروبا، وتعتبر ذلك من الناحيتين الاقتصادية والأمنية لا يتناقضان مع مصالح أميركا، بل يندرجان ضمن الأهداف نفسها التي تسعى إلى تحقيقها. فهي تسعى منذ فترة نحو حث وزراء الاقتصاد المغاربيين - الذين جمعتهم في واشنطن مرتين خلال السنتين الماضيتين - على إقامة سوق مغاربية موحدة تمكن الشركات الأميركية من الاستثمار والترويج في سوق قِـوامها نحو 80 مليون مستهلك.
ويمكن من خلال معطيات كثيرة القول إن واشنطن تريد من خلال تركيزها على منطقة المغرب العربي تحقيق الأهداف الآتية:
- تلميع الصورة: اعترف بيرنز أخيرا أن هناك كراهية متزايدة للولايات المتحدة لابد من العمل على محوها. وهو يعلم أن هذه الكراهية ازدادت منذ الحربين اللتين شنتهما ضد أفغانستان والعراق، ليس فقط في المغرب العربي أو الشرق الأوسط ولكن في القارات الخمس. ويعتقد الأميركيون أن «مشروع الشراكة مع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» الذي أعلن عنه وزير الخارجية كولن باول في ديسمبر/ كانون الثاني 2002، من شأنه أن يعدل من صورتهم الحالية، ويجعلهم « محررين» وليس مستعمرين.
- إحكام التبعية الاستراتيجية: إن مشروع «الشراكة» المطروح ليس في الحقيقة إلا صيغة من صيغ توثيق ارتابط المنطقة بمراكز القرار في واشنطن. وبما أن هذا المشروع الضخم يحتاج إلى آلية متابعة وتنفيذ قام بيرينز بإعلان إنشاء مكتب إقليمي سيكون مقره في السفارة الأميركية بتونس. وسيتولى مساعد وزير الخارجية (ريتشارد أرميتاج) من واشنطن الإشراف عليه، وسيرسل فريقا من الخبراء والدبلوماسيين خلال مطلع العام المقبل لإدارته، علما وأنه سيغطي كامل أرجاء الوطن العربي.
وستُـناط بهذا المكتب ثلاث مهمات. الأولى اقتصادية (متابعة الإصلاحات الاقتصادية وتمويل المشروعات ومتابعة تنفيذها ودعم جهود زيادة الشفافية ومكافحة الفساد). والثانية تربوية تخص (إصلاح التعليم ومقاومة الأمية وتوسيع تدريس الأنجليزية). أما المهمة الأخيرة فهي سياسية وصفت بكونها (تشجيع الحرية والعدالة وتوطيد المجتمع المدني). وقد خصص لذلك «صندوق الديمقراطية للشرق الأوسط» لمساعدة المنظمات غير الحكومية والشخصيات السياسية المستقلة التي تعمل من أجل الإصلاح السياسي. كما يبشر المشروع بإنشاء مزيد من المنظمات غير الحكومية، ووسائل الإعلام المستقل، وتنظيم دورات تدريبية لنشطاء حقوق الإنسان والقضاة والسياسيين.
- تحقيق الاندماج الإقليمي: يعتقد الأميركيون حاليا أن الاندماج الإقليمي يُـشكّـل الإطار الأمثل للتنمية والتحديث في المغرب العربي. وبما أن ذلك من مقتضيات عولمة الاقتصاد، وينسجم كلية مع أطروحات منظري الليبرالية الجديدة، لهذا كان من الطبيعي، وعلى رغم التنافس الأميركي الأوروبي عن منطقة جنوب المتوسط، أن يعلن (بيرنز) تأييد بلاده للحوار خمسة زايد خمسة مادام يزيد من دفع الأوضاع نحو تحقيق هذا الاندماج الاقتصادي الذي تم السعي إليه منذ عهد الإدارة الأميركية السابقة فيما صار يُـعرف بـ «مبادرة أيزنستات» التي أطلقت العام 1998.
فمن جهة تضغط واشنطن على دول المغرب العربي حتى تسرع في عملية الاندماج الاقتصادي فيما بينها، ومن جهة أخرى تعمل على تحقيق وجود اقتصادي أقوى لها في المنطقة. وفي هذا السياق أعلن في الرباط قرب توقيع اتفاق منطقة التبادل الحر بين بلده والمغرب، وأكد في تونس كذلك تشجيع واشنطن للتونسيين المضي في الطريق نفسه للتوصل إلى اتفاق مماثل، فيما حض الجزائريين على اعتماد مزيد من الإجراءات الانفتاحية لتحرير الاقتصاد، أملا في اللحاق بالمستوى الذي بلغته جارتاها.
- التنسيق الأمني: على رغم أن التحقيقات الدولية لم تثبت دورا كبيرا لرعايا دول منطقة المغرب العربي في تنظيم وقيادة شبكات المتشددين على الصعيد العالمي، وأن البعض منهم كانوا عناصر تنفيذ، إلا أن الإدارة الأميركية قد أخذت منذ فترة تضع ثقلها الأمني بشكل ملحوظ في هذه الرقعة من الوطن العربي. ولا شك أنها اتخذت من بعض الحوادث مثل حادثة (جزيرة جربة في تونس) وتفجيرات الدار البيضاء وإعلان إحدى الجماعات المسلحة في الجزائر انتماءها إلى تنظيم القاعدة وتوجيه تهديدات بضرب المصالح الأميركية، اتخذت من كل ذلك ذرائع لتعزيز حضورها الأمني وربما العسكري. فبعض المصادر الإعلامية أشارت إلى احتمال أن يكون المسئول الأميركي قد طلب خلال جولته الحصول على قواعد أو تسهيلات في (القنيطرة) بالمغرب، و(بنزرت) في تونس، والمرسى الكبير في الجزائر. لكن ذلك لم يمنع بيرنز من يؤكد من جهة أخرى أن الولايات المتحدة لا تؤمن بالاقتصار على الحلول الأمنية في مكافحة الإرهاب، مشددا على إيجاد منظومة تعليمية سياسية - اجتماعية ترمي لإصلاح البرامج التربوية، وتعزيز المشاركة السياسية، والحد من الفقر والبطالة والفوارق الاجتماعية.
المنطقة تدخل «عرين الأسد»
إذا كانت دول شمال إفريقيا قد أبدت حرصها على توثيق علاقاتها مع واشنطن، وخصوصا على الصعيد الاقتصادي، فهل ستكون مستعدة للاستجابة لبعض الضغوط التي قد تمارسها الولايات المتحدة في المجال السياسي؟ ففي هذا السياق، تمنى (بيرنز) مثلا على الجزائريين اعتماد الشفافية الكاملة في الانتخابات الرئاسية المقررة للربيع المقبل، وحض التونسيين الذين يتهيّـئون لانتخابات رئاسية وبرلمانية في خريف العام المقبل، على اتخاذ خطوات عملية لتحرير الإعلام وإدخال جرعات من الانفتاح على الحياة السياسية، فيما شجع المغاربة على المُـضي في الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي بدأها الملك محمد السادس، وباركتها بحماس إدارة الرئيس بوش.
مهما كانت التوقعات أو جدية ما يتحدث عنه الأميركان فيما يتعلق بالإصلاح السياسي، فالمؤكد أن منطقة المغرب العربي دخلت نهائيا مرحلة التجاذب الولي، وأنها بدأت تهيأ، من دون تخطيط منها، للتكيف مع الهيمنة الأميركية
العدد 446 - الثلثاء 25 نوفمبر 2003م الموافق 30 رمضان 1424هـ