على رغم ما حصل من دمار وخراب في المنطقة العربية والإسلامية بفعل الحروب المفتعلة والأزمات المصطنعة التي اخترعتها الإدارة الأميركية وخصوصا في عهدي بوش الأب وبوش الابن هناك بعض شرائح المثقفين العرب لايزال يراهن على الولايات المتحدة كوسيلة من وسائل التغيير «الديمقراطي» في العالم العربي - الإسلامي؟
حتى أمس القريب كان هناك من يعتبر من الدول العربية وتلك الشريحة من المثقفين أن أسرة بوش «عربية الهوى» وأنها مُحارَبة سرا من الصهيونية و«اللوبي اليهودي». كذلك هناك من كان يعتبر نائب الرئيس الحالي ديك تشيني صاحب ميول «عروبية» ويتفهم قضايا فلسطين والمسلمين. وقس على ذلك مثل وزير الدفاع دونالد رامسفيلد (صديق صدام ووسيطه في الثمانينات في عهد رونالد ريغان)، مضافا إليه جورج شولتز (وكيل شركة باكتل وصاحب مشروعات وتعهدات بقيمة المليارات في بعض الدول العربية)... كل هؤلاء كانت هناك «تصورات» ومجموعة «أوهام» عن كونهم من أقرب المقربين للدول العربية والمسلمة وأكثر الفئات الأميركية تفهما لقضية فلسطين. وحتى الآن مازال بعض المفكرين يشك في انحياز هذه الكتلة من السماسرة والوسطاء والوكلاء إلى مصالح «إسرائيل» وأمنها في المنطقة، بل انه يبرر خطواتهم ويتفهمها ويعطيها الذرائع ويفسر سلوكها العنصري المقرف ضد العرب والمسلمين بأنه مجرد «تكتيك» مؤقت يراد منه كسب الأصوات الانتخابية... وبعدها لكل حادث حديث.
هذه الرؤية المشوشة (المؤامرتية) لقراءة المصالح العربية وأين يجب أن تذهب الجهود وتتركز العلاقات تكشف عن نقص معرفي أحيانا وضعف في الإرادة أحيانا أخرى... لأن مثل هذه القراءات ورطت الدول العربية في رهانات خاسرة وأضعفت المواقف القومية أو المشتركة على الصعيدين الإقليمي والدولي. وأورثت العرب والمسلمين سلسلة مواقف غامضة جعلت الدول الصديقة أو المتفهمة للمطالب والحاجات تبتعد عن الدول العربية في وقت استغلت «إسرائيل» تلك المسافة لتشغلها لفرض المزيد من العزلة الدولية على الدول العربية وفلسطين.
حتى الآن وبعد كل المصائب لاتزال هناك وجهات نظر تصر على تفسير الماء بالماء والضرب بالرمل والاستنتاج بأن أميركا لن تتخلى عن الدول العربية في حال قررت «إسرائيل» ضرب ضربتها.
هذه «الوجهات» تصر على أن الإدارة الأميركية لابد لها من أن تنتبه لمصالحها وتدرك أن أوراقها الرابحة مع العرب وليست مع «إسرائيل». وتستند تلك الآراء أو بعضها على مواقف تتسم بالهدوء يطلقها هذا المسئول أو ذاك... أو مثل أن الرئيس جورج بوش سحب ملف العراق من رامسفيلد وأعطاه لمستشارته كوندليزا رايس وغيرها من «حركات» و«تصرفات» تصدر عن الإدارة الأميركية بمناسبة أو من دون مناسبة.
هذا النوع من التفكير لا يريد تقصي الحقائق ويقرأ السياسة بناء على منهج معرفي بل انه يتعمد التقاط مفارقات لتربيع الدائرة في لحظة يشهد فيها العالم سياسات هجومية اتخذت من المنطقة العربية - المسلمة منطلقا لها.
الليونة عموما لا تعني تراجعا استراتيجيا وإنما قد تكون خطوة إلى الوراء لتنظيم الصفوف استعدادا لهجمات كبيرة ضد أهداف معينة. فالحروب عادة ليست سلسلة اجتياحات ميدانية متكررة كما حصل في أفغانستان والعراق. أحيانا تتخذ الحرب أشكالا متنوعة من المواجهات تقتصر على ضربات موجعة في أمكنة حساسة من دون حاجة إلى شن هجمات برية ضد الدول المعنية بالأمر. وسحب ملف من وزير وتسليمه إلى وزير أو مستشار آخر لا يعني بالضرورة انقلابا في الموقف السياسي بل ربما يعني تسليم الوزير الأول ملفات أخرى أكثر حيوية وأهمية بعد أن أنهى وظيفته في الملف العراقي.
هذا النوع من التفكير القاصر في المعرفة السياسية وإدارة المصالح يحيلنا مجددا إلى أسباب انتعاش آمال بعض المثقفين العرب في إمكان إحداث التغيير العربي بالواسطة الأميركية... وهذا يعني الاعتماد على قوات احتلال أجنبية لإقامة نوع من الأنظمة التابعة سياسيا واقتصاديا على منوال «مجلس الحكم الانتقالي» في العراق.
هذه كارثة... لأن هذا النوع من التقصير المعرفي يرفد ضعفه بقوة «أجنبية» هي في النهاية تلبي حاجات ومصالح شركات ومؤسسات ومصارف لا غاية لها سوى احتكار ثروات العالم ونهب خيراته. فأميركا ومن ضمنها أسرة بوش لا تبحث عن مصالح العرب ولكنها تبحث عن مصالحها عند العرب وعلى حسابهم... سواء من طريق أنظمة موجودة أو بواسطة أنظمة يراد إقامتها. وبين الموجود والمراد لا فارق سياسيا بين هذا وذاك مادامت خطة السيطرة سائرة وفق البرنامج
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 446 - الثلثاء 25 نوفمبر 2003م الموافق 30 رمضان 1424هـ