قيل قديما إن الحياة تجارب، وإن التجارب تصقل الرجال، هاتان المقولتان أثبتهما تاريخ البشرية منذ بدء الخليقة. لأن في التجارب علوما ودروسا وعبرا يكتسبها الإنسان العامل والمنتج ويضيفها إلى رصيده، على عكس الإنسان غير المنتج وغير الفاعل (العقل المستفاد كما هو وارد في تقسيمات مراتب العقل عند أرسطو وابن سينا)، فالأول يصعد بعلمه وإنجازاته بتدرج على سلم الحياة، بينما الثاني يبقى جامدا ومتفرجا في أول السلم بل أحيانا يعوق تقدم الصاعدين من العاملين والمتفائلين والمثابرين، الذين يطمحون الى المزيد من التقدم والرقي وفق مبدأ التدرج.
البشر أصناف، ودرجات متفاوتة في الفكر والعلم والإيمان. يقول الإمام علي عليه السلام «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة». إن أسباب هذا التمايز كما يراها بعض العلماء هي بسبب البيئة الجغرافية والثقافة المجتمعية اللتين تحكمان كيان الإنسان، وتؤثران بصورة أساسية في بنيته الجسدية والذهنية والفكرية والمزاجية. إنني أميل إلى هذه الرؤية العلمية التي أكدتها صفحات التاريخ، لكننا لا نستطيع أن ننفي دور المؤثرات الخارجية في التركيبة الفكرية والثقافية للفرد أو للمجتمع.
التطور العلمي والغزو الثقافي غيّرا مجرى حياة الكثير من الشعوب والأمم. فلا يوجد اليوم مجتمع محصن في ظل القرية الكونية ونظام العولمة، ولا يمكن احتكار العلوم والأخبار في ظل ثورة المعلومات والاتصالات التي جعلت العالم قرية كونية. السؤال الذي يطرح نفسه هل بالإمكان للفرد أو الجماعة أن يكون لهم دور في عملية التجديد والتغير في هذا العصر؟ الجواب بالتأكيد نعم، لأن التغيير والتجديد غير محصورين بعاملي الزمان والمكان. الكون في حركة مستمرة وكذلك الإنسان. البشرية انتقلت من مرحلة إلى أخرى عبر تاريخها الطويل، العلماء والمفكرون والمكتشفون والقادة الدينيون والإصلاحيون ساهموا بشكل رئيسي في تغيير مجرى التاريخ. في المقابل برزت شخصيات دموية ساهمت في إلحاق الدمار للكثير من المجتمعات. إن صفحات التاريخ حافلة بكلتا الشخصيتين، ومدى تأثيرهما في تقدم أو تأخر كثير من المجتمعات والأمم.
الحضارة البشرية واجهت الكثير من العقبات والتطورات عبر العصـور، واليوم تشهد الساحة الإقليمية والدولية الأزمات والصراعات والتنافس والتدافع، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الثقافة تعتبر سببا لهذه الصراعات أم المصالح ؟ هذا السؤال يجرنا إلى الخوض في محيط الفكر والحركة الفكرية بشقيها السياسي والثقافي. لكنني أحاول قدر المستطاع في هذا المقال عدم الخوض في المحور الثقافي للصراع، مستهدفا الوصول إلى نتيجة أو بالأحرى حل للأزمات التي تعاني منها كأفراد، وتعاني منها الجماعات والأحزاب السياسية وكذلك الحكومات. من هنا لا بد من وضع دراسة لمعرفة ديناميكية الأفكار والنظريات والمواقف السياسية في مجتمع جامد وآخر ناشط وذلك لمعرفة فلسفة حركة، الفكر وخصوصا الفكر السياسي في المجتمعات الشرق أوسطية، هذه المعرفة ستفتح لجميع الأطراف آفاقا واسعة لاختيار منهج سليم في العلاقات والأنشطة السياسية والمشاركة الفاعلة والمسئولة للنهوض بالمجتمعات.
حركة الأفكار
إن تأثير أية أطروحة سياسية أو فكرية جديدة على مجتمع جامد وغير متحرك ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، كتأثير حجارة ترمى في بحيرة ساكنة وهادئة. إن التفاعل الذي يحدث في هذه البحيرة نتيجة رمي الحجارة هو التفاعل نفسه الذي تحدثه المواقف والإطروحات السياسية والحركات الفكرية في مجتمع غير حيوي. إن أول ما يسمع لحظة اصطدام الحجر بسطح الماء صوت الاصطدام ثـم ترتفع كمية من الـماء ومن ثم تتولد أول موجة من مركز الاصطدام، تضغط الموجة لتبتعد عن المركز فتسبب خلق موجة أخرى، تتوسع الموجة وتتولد موجات متتالية مصدرها مركز الاصطدام، ثم تستمر الموجات الدائرية في التوسع فتزداد في توسعها كلما ابتعدت عن المركز حتى تصل الموجات على التوالي إلى اليابسة فتصطدم بها، ترتد أول موجة وأثناء تراجعها تصطدم بالموجة التي تتبعها فتحدث أصوات وترتفع فقاعات بيضاء نتيجة الاصطدام، تستمر حال عدم الاستقرار في سطح البحيرة لفترة زمنية قصيرة لكن في النهاية ترجع البحيرة إلى حالتها الأولى وهي السكون.
إن وضعية أي شعب أو أي مجتمع غير حيوي قبال الحوادث والأفكار والمواقف السياسيـة الطارئة أشبـه بوضعيـة البحيـرة المذكـورة (الاصطدام ثم الزلزال ومن ثم السكون) وحال السكون لا تعني دوما حال الاستقرار السياسي والأمني، وخصوصا في الدول غير الديمقراطية لأن هذه الدول معرضة دوما للحوادث والقلاقل. إن الحجارة التي رميت قد أحدثت حركة وردة فعل في البحيرة لفترة محدودة، لكن في النهاية البحيرة رجعت إلى سكونها وهدوئها وربما تستمر على هذا الحال إلى أن يأتي شخص آخر ويرمي رمية أخرى فتتكرر الحال «والديناميكية» من جديد، فكلما كانت الحجارة كبيرة كلما كانت تأثيراتها بالطبع اكبر. إن تأثير أية نظرية أو أطروحة فكرية أو مواقف سياسية على شعب ما يعتمد على سيكولوجية ذاك الشعب ومدى استعداده وتقبله لموجات التجديد والتغير. فإذا كان مـن الشعوب الحية، فسيتفاعل مع الأفكار التجديدية والمواقف السياسية وربما يتبناها إذا كانت تلك الأفكار والمواقف تلبي طموحاتـه، و أما إذا كان من الشعوب الجامدة والساكنة كالبحيرة التي أشرنا إليها فتفاعله يكون محدودا. «يقول علماء السوسيولوجيا إن هناك مسألتين مهمتين لانجاح أي مشروع، الأولى أن يستوعب الجمهور طبيعة الخطاب ويفهم ما يرمى إليه، والثانية أن يجد في الخطاب ذاته، ويرى حلولا لمشكلاته وإلا قد يفلس المشروع والخطاب وهو في بدايته».
التاريخ يشهد كم من الاكتشافات والاختراعات العلمية وكم من النظريات السياسية ظهرت، وكم من الثورات والانتفاضات قامت وغيّرت مجرى التاريخ، وكم من الشخصيات القيادية والعلمية برزت وقادت مسيرة الشعوب وأحدثت نهضة علمية واقتصادية واجتماعية. في المقابل كم من النظريات الفاسدة والشخصيات المستبدة جلبت الدمار للشعوب. إن الحقيقة التي يعرفها الجميع هي أن مقابل كل إنسان مبدع وخلاق ومصلح يظهر إنسان جبان وهدام ومفسد.
التاريخ حافل بالمصلحين والمفسدين، بالقانعين والجشعين، بالمدافعين عن حقوق الإنسان والمنتهكين لتلك الحقوق، بالمكافحين من اجل الحريات العامة والقامعين لها، هكذا سارت البشرية منذ «هابيل وقابيل» وستسير على هذا النهج إلى اليوم الموعود... يوم الجزاء والعقاب، «يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم» (الشعراء:89). في خضم هذه الصراعات الفكرية والسياسية وأزمة المصالح بين الأفراد والأحزاب والدول يأتي السؤال المهم: ما هو السبيل لحفظ التوازن وصيانة الحقوق والتقليل من الأضرار مع الاستمرار في العلاقات والحوارات على رغم وجود التنافس؟
المدرسة الوسطية
وفق المنظور الإسلامي، الإنسان المسلم يعيش بين الخوف والرجاء، الخوف من العقاب والرجاء في الثواب، من هنا يدعو المسلم ربه في صلواته الخمس الى أن يهديه إلى الصراط المستقيم «اهدنا الصراط المستقيم» (الفاتحة: 6) هذه الآية والآية المباركة «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس» (البقرة: 238) فهما حقا مصداق الوسطية التي يدعو إليها الإسلام، المنهجية التي يجب على الإنسان المسلم تطبيقها في جميع شئونه الحياتية وخصوصا في آرائه ومواقفه السياسية وعلاقاته بالآخرين. هذه الدعوة مثل ما هي موجهة إلى أفراد الأمة فإنها موجهة أيضا إلى الحكومات باتباع النهج الوسطي في التعامل مع الشعوب وفي إدارة دفة الحكم، لأنه بالعدل تصان الحقوق، وبالحرية ينمو المجتمع.
«الوسطية ليست أيديولوجية متزمتة محددة بل هي رؤية واسعة أشبه بالناظور المكبّر الذي يمكن أن يستخدمه أي إنسان مهما كان معتقده ودينه من أجل رؤية الواقع بصورة أكثر وضوحا واعتدالا». إن مقولة: لا إفراط ولا تفريط، تعتبر شعار المنهج الوسطي، هذا المنهج يجعل الإنسان يستخدم عقله قبل عاطفته، يدرس الأمور بموضوعية بعيدا عن العواطف، يحسب حساب الربح والخسارة، يدرك إيجابيات وسلبيات الموقف وتأثيراته حاضرا ومستقبلا. المدرسة الوسطية تجعل الإنسان السياسي أكثر واقعية، منفتحا وذا أفق واسع، مرنا في علاقاتـــه، متزنا في مواقفه وتصريحاته، متسامحا، متابعا ومحللا جيدا للحوادث، مستقرئا الساحة، عارفا بلعبة التوازنات والتحالفات الســـياسية، كما تعلمّ الإنسان السياسي متى يتخذ موقفا ومتى يتراجع عنه، يبتعد عن التزمت والانتهازية السياسية، يؤمن بالتعددية و يحترم الرأي الآخر، يدعم ثقافة الحوار، يلتزم بأخلاقيات العمل والحوار. المدرسة الوسطية، تنمي في الإنسان السياسي روح المبادرة، والمناورة السياسية لتحقيق أهدافه وتربيه على التمتع بالنفس الطويل، تجعل محور نشاطه السياسي الحفاظ على المصالح الوطنية والمساهمة في تنمية المجتمع. الوسطية لا تعني التنازل عن الثوابت، ولا هي فن من فنون تغيير المواقف بحسب المصالح. المدرسة الوسطية تعرّي السياسيين الانتهازيين وأصحاب المصالح الشخصية أو الحزبية. هذه خصائص المدرسة الوسطية والاعتدال وصفات الشخصية السياسية وفق المنظور الوسطي.
المفكر اللبناني السيدهاني الفحص يشرح كيف توصل إلى المنهجية الوسطية في نهاية المطاف فيقول «في لحظة ما يدخل العمر والمحيط والتجربة في منهجية التفكير والعمل. في شبابي كانت حساباتي قليلة، الآن المطلوب مني التدقيق أكثر، لذلك انتهيت إلى ثلاثية التوسط والاعتدال والتسوية، أنا وسطي. وإذا أردنا أن نعرف الثورية بمعناها الحقيقي، فهي الواقعية العقلانية التي تغير الواقع بأدواته، والوسطية هي شرطها ؛ لانها تتيح لك أن ترى ما حولك وتتيح لك أن تكف عن الاقتناع بأنك تمتلك جزءا من الحقيقة والجزء الآخر عند الآخر، ولذلك نحتاج إلى الحوار معه حتى توسع المشترك الحقيقي بينك وبينه فتتسع الحقيقة، وهذا يعني أنك تعترف بالآخر، وهذا يتطلب منك أن تعتدل، والاعتدال هو العدل الذي يقوم على معرفة الحقيقة، وكونك معتدلا وكونك وسطيا يعني ألا ترى حقا مطلقا وباطلا مطلقا أيضا. إذا ماذا تفعل؟ تعتمد التسوية مع ذاتك ومع الآخر، مع ما تعرف، ومع ما تعتقد، ومع ما لا تعتقد، وما يعتقده الآخر، مع ما تتوقع، وما يتوقعه الآخر. من دون تسوية يخرب كل شيء، تخرب أصغر بنيه إلى أعلى بنيه. والتسوية هي التنازل المتبادل عما تعتقده حقا لك، وهو تنازل مشترك، وإلا ستصل عمليا إلى تحصيل ما تعتقده، بعنف ضد الآخر. لو كان إلغاء الآخر تحقيقا للذات، فأنا أوافق عليه، ولكن إلغاء الآخر هو في حقيقته إلغاء الذات، فالآخر شرط الذات معرفيا ووجوديا. إذا يجب أن تسعى إلى التسوية وتفكيك الصورة النمطية عن نفسك وعن الآخر، وهذا التفكيك يجب أن يصل إلى وعي الآخر حتى يساعده على تفكيك الصورة النمطية عن نفسه، ويدخل هذا التفكيك في وعيك أيضا. وهذا جدل الحياة. هذه تجربتي بمفاهيمها للاعتدال والوسطية، وهذه تجلياتها وهذه مصادرها أيضاَ».
الوسطية الحيوية
إن حيوية أي فكر وأي مجتمع وأي حزب سياسي تفترض وجود التعددية في الآراء والمواقف والاطروحات لأن الوسطية تفترض وجود الإفراط والتفريط، التحلل والتزمت، الإسراف والتقتير... الخ ولا يمكن تصور وسطية حيوية من دون تعدّدية، وإلا أصبحت هي الوسطية الرياضية التي تعني التوسط بين نقطتين أو انها تتجمد في قالب واحد وتأخذ طابعا ثبوتيا، وهو ما يتنافى مع حيوية ودينامية الإسلام، وفي الوقت نفسه فإن الله تعالى هو الذي أراد هذه التعدّدية ووضع لها آلياتها حتى لا يتطرق الخلل إلى هذه التعدّدية وبهذا نجد التوحيد الخالص بالنسبة إلى الله تعالى والتعدّدية المنضبطة بالنسبة إلى المجتمع.
باعتقادي وفقا لما ذكرته آنفا فإن من أهم صفات الشخصية السياسية وفق المدرسة الوسطية:
أولا: الاعتدال في المواقف الفكرية والسياسية.
ثانيا: الإيمان بالتعدّدية الفكرية والسياسية.
ثالثا: الاحترام للرأي الآخر.
رابعا: القدرة على المناورة السياسية.
خامسا: التسامح الفكري
العدد 445 - الإثنين 24 نوفمبر 2003م الموافق 29 رمضان 1424هـ