العدد 445 - الإثنين 24 نوفمبر 2003م الموافق 29 رمضان 1424هـ

عالم مثقل بالكراهية

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

في أيام العيد نرى حولنا عالما مثقلا بالكراهية، وأشلاء الضحايا تتناثر في كل مكان، فمن بين عشرات الصراعات القائمة مع مطلع القرن الواحد والعشرين، قليل منها صراعات بين دول، وغالبيتها صراعات بينية في المجتمع الواحد، وعدد منها موجود بيننا نحن العرب.

ولعل احد اسباب تأجج الصراع الاجتماعي، هذا الذي نسميه، ونسمح بتداوله على انه مرجعية لنا، واقصد به الفتاوى التي تنهمر علينا من كل جانب.

لقد انشغل الرأي العام وخصوصا في دول الخليج في الأيام الأخيرة من رمضان بتصريحات علي الخضير، بشأن تراجعه عن تأييد الفكر المتطرف، هذا النقاش الكبير والحوارات الواسعة لهذه التصريحات تقلق المتابع وتثير الحكيم، لسبب واضح، أن الكثير منا بدا يفرق الحق من الباطل بفتوى من هنا أو من هناك، تأتي من أشخاص ليس بالضرورة لديهم باع وحجة، أو مكانة في سلم المؤسسات، التي تعارف عليها المجتمع الحديث وقبلها.

يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، حكمة أطلقها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، منذ أكثر من ألف عام على قاعدة (كل منا يؤخذ منه ويرد عليه) فليس هناك معصوم، فالرجال يعرفون بالحق ان هم قالوا به وعملوا من اجله، أما أن يكون الرجل محقا في دعوته مهما كانت، فذلك الخطأ الكبير، لأن ربط رأي الرجل - أيا كان - بالحق المطلق، قد يعرض المجتمع إلى كوارث، فهو على حق ان عمل بالحق، وعلى باطل ان جانبه، والحق يعرفه الناس من خلال آليات أصبحت معروفة منها توافق غالبية الناس عليه.

وفوضى (الفتاوى) قائمة في سوق عربية من المشرق إلى المغرب، لم يقرر بعد أي طريق لبناء المجتمعات الحديثة يسلك، أهو طريق المؤسسات القائمة على التشاور ذات الآليات الحديثة، في المبنى والمعنى، أم هو طريق الأفراد ذوي التوجهات الخاصة الذين يقررون فرادى ما ينفع المجتمع وما يضره، وعادة ما يسمون بالمفتين في بلادنا!

هل يذكر أحد منكم اسم (حسن الخلف) ان لم يكن كذلك، فهو المجند اللبناني الذي قتل في مطلع هذا العام مجندا آخر هو (أنطوان كرد) على خلفية فتوى قال بها امام مسجد بلدة وادي خالد في لبنان بإباحة قتل المسيحيين! هذا في بلد يعيش أهلها بدياناتهم المختلفة لآلاف السنين.

هذا في تاريخنا الحديث، أما تاريخنا القديم فيعج بحوادث تسلط العوام على المجتمع وتحريض أمثالهم على الفتك بالمستنيرين، ولا داعي لذكر آخرين غير شهاب الدين السهراوردي وابن جرير الطبري، وغيرهم فكتب المرحوم احمد أمين تأتي بأمثلة كثيرة لمن أراد الاستزادة.

ما نشهده هو رفض الآخر، والعداء غير المبرر للاغراب والاغيار، في الفكر أو الممارسة لقلة وضعف في فهم العالم المحيط، وتحول هذا الرفض إلي بني الجلدة والأهل. انه قصور في التثقيف وعجز عن فهم المقاصد.

إبراهيم صادق الحسيني مفتي نيجيريا (يجيز عمليات الاستشهاد) ومحمد تقي باقر في ولاية ماريلاند في الولايات المتحدة، يعلن أن النبي محمد (ص) (قد أسس حزبين سياسيين المهاجرين والأنصار)! وشيوخ الإفتاء حولنا ينثرون فتوى التكفير على كل مخالف، ويعتبرون القوانين الوضعية التي تنظم حياة الناس على قاعدة (انتم اعلم بشئون دنياكم) على أنها (ردة عن الإسلام)! ويستبيح البعض الآخر دماء شباب ينظرون إلى العام نظرة موضوعية يريدون تطوير أوطانهم على أنهم شياطين تتناثر حول أسمائهم فتاوى مغلظة بالكفر والزندقة وتحليل إراقة الدماء.

الدول العربية الحديثة يجب ألا تقع في فخ تسليم قيادة المجتمع إلى بضعة مفتين، فهم في أحسن الأحوال رجال قرأوا نصوصا وفسروها، والتفسير هنا يقع تحت شروط الخبرة بالحياة وتجارب الشعوب، والفهم الصحيح لمقاصد الشريعة، ولا يرتبط بالشهوة الذاتية للزعامة وحب المغايرة أو يتقوقع في تجربة محدودة ضيقة الأفق لا تنتمي إلى العصر.

نبت كل ذلك من فكر سماه البعض فكر الصحوة، وبعضنا فقط انتبه إلى خطورته منذ أمد، وبعضنا الآخر استسلم له، أو حاول أن يركب موجته، أو يستفيد مؤقتا منه، وتبين أن هذا الفكر، هو بالضبط كما سماه المرحوم محمد الغزالي، انه فكر غفوة لا صحوة.

لقد سكت عن فتاوى التكفير للأشخاص والمخالفين بسبب توجهها إلى أشخاص، تحت ذريعة ان لو تمت معارضتها ستفتح أبوابا ليس من الحكمة فتحها، وعانى أولئك الأشخاص الذين جرى إصدار الفتاوى ضدهم، من تكميم أفواههم خوفا وهلعا، وسكتت الدولة في كثير من مجتمعاتنا العربية على ذلك، ثم تطاول الإفتاء إلى أركان الدولة وصلبها، وطريقة عملها وعلاقاتها بالخارج متهمة بالتكفير والخروج، وبعده بالترهيب المسلح في محاولة لفرض تصورات ذلك التيار ورؤيته على الدولة والمجتمع، بعد أن اُسكت الأفراد والمنائون.

ليس دينا ولا سياسة ما يقوم به بعض المفتين من الذين نصبوا أنفسهم لهذا العمل، ذلك خطأ والخطأ الافدح أن نصدرهم مرة ثانية بحجة (عودة الوعي لديهم) من جديد لتوجيه الرأي العام، لقد كان موقفهم السابق خطأ ومن الأفضل تحرير قطاع من الشباب من سيطرتهم بدلا من تمكينهم لأحكام السيطرة، لان العائد من طريق الزلل بسبب فتواهم الجديدة يمكن أن يعود إليه بسبب فتوى مضادة.

آن الوقت أن تحدد مرجعية الفتوى وتضبط، وان يُجرم حسب القانون، كل من يأتي بقول تحريضي يدفع آخرين لارتكاب جرم، أو يجرم أناس أبرياء، بسبب الاختلاف في الرأي. ذلك عمل الدولة الحديثة التي تستخدم في تنفيذه عددا من الوسائل والإجراءات منها التثقيف العام ومنها تطبيق القانون السائد.

لقد عانى المجتمع العربي في السنوات الأخيرة فوضى الفتاوى، كما يعاني إعلامنا فوضى (الدعاة) في الوقت الذي ترزح شعوبنا في مجملها تحت طائلة التخلف ونقص في اكتساب المعرفة الحديثة، وتعليم متدن وتنمية هزيلة، قادت في مجملها وبسبب تغييب الوعي إلى كل هذه الهزائم المنكرة. أما الأعظم من ذلك فإن احتمال أن تقود إلى حروب أهلية ضارية أمر ممكن ننساق بعده إلى ما انساقت إليه شعوب أخرى من نفور قاد إلى صراع دموي لا يزال فتيل بعضه مشتعلا.

الشرط الحرج للخروج من هذا المأزق إنقاذ فكر الناس من الوقوع في ضبابية التكفير جهلا واغتباطا، والذي يقود البعض من التابعين لا محال إلى الايمان المطلق بالخرافات التي يطلقها بعض المفتين، واعتبار مثل هذه الشخصيات قيادات وهي لم تنتخب ولم تزك، وتترك مطلقة اليد تعبث بفكر الناس وعواطفهم الدنية.

إسلامنا ليس ذاك، ومعالجة الأمر على المدى المتوسط والطويل هو بدفع سياسات واضحة لرفع المظالم من اجل نزع الذرائع، وفضح التسربل بالإسلام، وتوحيد مصادر المرجعية، وتجريم غيرها، هذا ليس ضربا على حرية الرأي، ولكن الرأي الفردي يجب أن يعامل على انه اجتهاد شخصي غير ملزم، وعندما يتحول إلى إلزام وخصوصا للشباب فذلك أمر التسامح فيه تفريط.

ما يقدمه مثل هؤلاء المفتون من أفكار يتناقض مع العصر، فهم لا يتحدثون عن الكفاءة والنزاهة في الشئون العامة، ولا التعليم الحديث ذي المردود التنموي وبناء منظومة تعليمية قادرة على اكتساب المعرفة الحديثة، وتقديم حلول للمشكلات المعيشية التي يواجهها المجتمع، ان مشروعهم - إذا كان لديهم ثمة مشروع - هو عالم مثقل بالعداء للآخر والداعي للانعزال والمشبع بالكراهية. وذلك ليس مشروعا إنسانيا.

الإرهاب ليس محليا، او مقصورا على منطقة جغرافية كما انه في المبتدئ فكري، يحتاج إلى أن يعالج في العمق بالفكر أيضا، بتدريس الفكر النير الذي يقرر أننا لسنا وحدنا في هذا العالم، وان ما يفعله البعض محرضين ومنفذين لا يعدو أن يكون انتحارا ذاتيا وتخريبا وطنيا

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 445 - الإثنين 24 نوفمبر 2003م الموافق 29 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً