العدد 444 - الأحد 23 نوفمبر 2003م الموافق 28 رمضان 1424هـ

أوقفوا الحروب الأهلية المتنقلة!

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

ثمة تفاعلات خطيرة تحصل هذه الأيام داخل مجتمعاتنا الإسلامية يمر السياسيون عليها مر الكرام، وسواء كانوا من القوى الحاكمة أو أحزاب المعارضة ومنظماتها. ففي الوقت الذي تجتاح فيه أخبار الانفجارات وأعمال العنف والعنف المضاد سواء المصنفة منها «مقاومة» أو «ارهاب» المساحة الأكبر للصحافة والوكالات والفضائيات يكاد يختفي من قاموسنا الاخباري مصطلح المجتمع الأهلي لشدة ابتعاد إعلامنا وسياسيينا حكاما ومحكومين عن نشاطات الشريحة ا لواسعة من أبناء المجتمع المنضوية في إطار نشاطات هذا المجتمع الأهلي والمطالبة أصلا بتحمل العبء الأكبر من هموم الوطن والأمة.

وفيما تصطف النخب «المسيّسة» بين من يريد جرنا إلى الماضي بأي ثمن كان حتى بالحروب الأهلية والفتن الداخلية وسياسة التكفير والتفسيق لفئات يعتد بها من قوى المجتمع الحي ومن يريد جرنا ولو بالقوة إلى مواقع الآخرين لنعانق «قيمهم» النبيلة والسامية! انطلاقا من كونها صانعة المدنية الحالية التي نعيشها، نرى أن غالبية أفراد المجتمعات التي تضمنا في أقطار صغيرة أو كبيرة مهمة أو غير مهمة، تعيش في الواقع هموما أخرى أقل ما يقال عنها بانها ليست هموم السياسيين الأولى بالتأكيد.

وليأخذ كل واحد منا بلده الذي يعيش فيه مثالا ليرى ويلمس ويقدر بنفسه إذا ما كان فعلا ما «يتقاتل» عليه السياسيون أو «يساوم» عليه بالحروب الكلامية المعروفة هو نفسه الأمر أو الشأن الذي يشغل بال أكثرية الناس؟

جميل أن تكون الأمة «مسيسة» وواعية لما يحدث من حولها وجميل أكثر أن تكون مسئولة وحاضرة في اللحظة المناسبة لتقف عند مسئولياتها وتقوم بواجباتها تجاه الوطن لاسيما في المنعطفات.

لكن الأجمل والأهم من كل هذا هو أن يكون السياسيون والنخب المثقفة والواعية على قدر المسئولية التي يحملها إياهم وعيهم بما يجري في العالم من حولهم وما يجري في بطن مجتمعاتهم من تحولات.

منذ مدة وربما منذ 11 سبتمبر/ أيلول تحديدا انشغل السياسيون في العالم بكلام مكثف وضاغط وقوي مفاده: ان العالم يتحول بسرعة قصوى، وعلى الأفراد والجماعات اللحاق بهذا القول المتسارع ليأخذوا موقعهم المناسب فيه!

وفيما يخص منطقتنا العربية والإسلامية يتم توجيه الحديث كالآتي:

الشرق الأوسط يتغير بسرعة أو يجب أن يتغير بتسارع يتناسب والتسارع العالمي بما يؤمن الموقع المناسب لهذه البقعة الجغرافية في الخريطة الدولية الجديدة!

وفي خضم هذه النقاشات يتم قصف الجماهير باعلامين متضادين:

الأول: وهو الغالب والذي يقول: أيها الأصوليون والسلفيون والمثاليون والعاطفيون، لقد ولّى زمانكم إلى غير رجعة! ولم يبقَ أمامكم سوى ترك كل شيء يعود للماضي بأسرع من لمح البصر واللحاق ولو بالعربة الأخيرة من القطار الأميركي حتى تفوزوا بجائزة معانقة القيم الأميركية المتبلورة بالحرية والديمقراطية!

الثاني: وهو المغلوب في الظاهر ولسان حاله يقول: يا جماهير الأمة المغلوب على أمرها على امتداد الهلال الإسلامي من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، ليس أمامكم إلا «مقاومة» كل ما هو قادم من ما وراء هذه البحار «الشيطانية» والتصدي له بقوة والعودة إلى المجد الغابر لهذه الأمة بكل ما أوتيتم من قوة حتى وإن أدى ذلك إلى أن يغرق المركب بمن عليه طالحين وصالحين أو أن يحترق الأخضر واليابس على أن نسلِّم بتلك الثقافة الكافرة والسافرة القادمة إلينا من خارج قيمنا بالتمام والكمال!

السياسيون والنخب العليائية المقيمة في بلادنا باتت في الغالب منخرطة في هذا الحشد الإعلامي من دون مقاومة تذكر أو تأمل أو تفكير في نتائج وتداعيات مثل هذا الاستقطاب الحاد على نسيج مجتمعاتنا وشبكة اتصالاته الأهلية الأصلية وآثاره الخطيرة التي تعطل فعل الانتاج والتنمية فيه على كل الأصعدة والمستويات، بل والكفيلة والمسئولة عمليا عما يحصل من حرب أهلية معلنة أو غير معلنة بين فئات الشعب المختلفة بسبب هذا التخاذل «النخبوي» و«السياسي» تجاه هذه الظاهرة الخطرة.

ثم بعد ذلك تستغرب هذه النخب الحاكمة والمحكومة لماذا لا تتحرك «الجماهير الغفيرة» دفاعا عنها ظالمة أو مظلومة!

مسكينة هذه الجماهير فهي بالغريزة والطبع السليم مسلمة ومعتزة بدينها وحضارتها ومجدها الغابر من جهة لكنها لا تريد في الوقت نفسه أن تسترد ذلك المجد «بالقوة» وبالحرب الأهلية وفتنة التكفير والتفسيق وتمزيق المجتمع.

غير أنها وأيضا بالغريزة والطبع السليم تبحث عن الجديد وتتوق للإصلاح والتغيير ومتسامحة مع أي كائن يريد مساعدتها في تطوير وتهذيب وتشذيب خبراتها ومعلوماتها ويكمل ما لديها من قناعات أو معتقدات فكرية قابلة للتفسير والتأويل والاجتهاد والاستنباط، لكنها في الوقت نفسه مسلحة بأقصى درجات الوعي واليقظة والحذر ممن يريد السوء بها أو بدينها أو بخصوصيات ثقافاتها المحلية ونسيجها الوطني أو القومي.

وبالتالي فهي إذ ترفض بقوة وبحكم تلك الغريزة والطبع السليم الانجرار وراء ذلك الاستقطاب المزيف والمضر فانها تتوقع بالمقابل من أرباب السياسة والنخب الحاكمة والمعارضة في بلادها أن توقف هذه «المحرقة» العامة والشاملة من خلال الاستعانة بالعقل والفطرة السليمة وغريزة ضرورة البقاء، وذلك من خلال اطلاق مبادرات وطنية في كل قطر وبلد إلى الحوار المفتوح والشامل والذي لا يستثني أحدا للبحث عن «صيغة توفيقية» وليس «تساومية» تجمع بين ضرورة احترام الميراث العام لثقافتنا وحضارتنا بغثه وسمينه وليس بالضرورة قبوله، وضرورة التطلع إلى العالم بعقل اجتهادي واقتباسي منفتح والاطلاع على تركمات الفعل الإنساني «الآخر» وليس بالضرورة قبوله وعندها سيكون «النصر» حليفنا، وينطبق علينا القول الشهير: «لا تكن لينا فتعصر ولا يابسا فتكسر». كان هذا اجتهاد من وحي رمضان نأمل أن يفيد أكثر مما يضر. على الأقل أن يفيدنا في وقف نزيف حرب الأفكار المدمر والذي بدأ يظهر أحيانا بعنف مسلح غير مبرر على أن نجمع قوانا الداخلية الذاتية للدفاع عن حقوقنا الثابتة

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 444 - الأحد 23 نوفمبر 2003م الموافق 28 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً