العدد 444 - الأحد 23 نوفمبر 2003م الموافق 28 رمضان 1424هـ

الصراع على جورجيا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كيف يمكن قراءة تجدد الصراع على جورجيا؟ فهل الصراع هو مجرد انقسام داخلي بين تيارات متنافسة على السلطة أم هو نتاج تغييرات في التوازنات الإقليمية وعودة التنافس الدولي إلى منطقة آسيا الوسطى؟

القراءة الداخلية للصراع لا تكفي لفهم ما يجري لأن السلطة أساسا غير قائمة على توازنات محلية معزولة عن محيطها الإقليمي واللعبة الدولية. فالداخل الجورجي ليس كتلة من الانقسامات المحلية فقط بل هو أصلا نتاج توازنات خارجية أنتجت في لحظة زمنية سلطة قلقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال جمهورياته الجنوبية المسلمة والارثوذكسية (أرمينيا وجورجيا). فمنذ الانفصال (الاستقلال) عانت الجمهوريات لحظات اضطراب لم تستقر على معادلة نهائية حتى الآن. وجورجيا مثلها مثل أرمينيا واذربيجان تعرضت لهزات اقتصادية ومشكلات عرقية واضطرابات حدودية وإقليمية. وفي حال جورجيا هناك رزمة من القضايا المعقدة لها صلة بالتركيب العرقي (مطالبة إقليم ابخازيا بالانفصال) أو بالامتداد الحدودي (اضطراب جمهورية الشيشان) أو بالاقتصاد (الاكتشافات النفطية) أو بالموقع ( محاولات مد أنابيب النفط من بحر قزوين).

رزمة المشكلات هذه كانت ضائعة (غائرة) في جسم ضخم حين كانت جورجيا واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي. فالدولة السابقة كانت كبرى وكان باستطاعتها احتواء كل عناصر التفجر المحلية في إطار مظلة اتحادية كبرى.

انكشفت المشكلات حين انفكت تلك الجمهوريات عن المركز ودخلت الأطراف في صراعات حدودية - محلية لترسيم حدودها وإعادة تركيب اقتصادها باستقلال عن موسكو ودول الجوار. وزاد الطين بلة وجود أقليات في كل جمهورية جديدة تنزع بدورها نحو الاستقلال وتشكيل دويلة ذات سيادة.

إلى الأقليات جاء اكتشاف النفط بكميات ضخمة أغرت الشركات ودفعتها إلى تمويل سلسلة حروب أهلية للسيطرة على المنابع ومناطق التنقيب وأخيرا طرق الإمداد والأراضي التي يتوقع أن تمر بها الأنابيب.

كل هذه العناصر اجتمعت في فترة انتقالية من زمن مضى (الاتحاد السوفياتي) إلى مستقبل واعد (أحلام الثروة السهلة والإنفاق غير المحسوب). وفي المراحل الانتقالية ينكشف كل شيء ويصبح البحث عن هوية خاصة ومستقلة نقطة مركزية في سجلات الصراع لأن الهوية في هذا المعنى ليست ثقافة تاريخية بل هي مكاسب نفعية تدر المليارات من دون حاجة إلى تعب وانتاج. وحين يتحول الاقتصاد من قوة انتاج إلى قوة شرائية (استهلاك) يزداد الاتكال على الشركات (الأجنبي) ويصبح الأجنبي حاجة وطنية لأنه الوحيد الذي يملك المال والمعدات والخبراء والخبرات لتحصيل المورد وإخراجه من باطن الأرض وتكريره وإعادة تصديره.

هذا النوع من الاقتصاد (الاعتماد على الخارج، والإنفاق من دون انتاج) يعزز التنافس ويشعل الصراعات ويفتحها أمام آفاق لا نهاية لها من التعارضات والتصادمات في سبيل كسب ود «الأجنبي» لأن الأخير بمثابة المنقذ من الفقر والمسعف الذي يؤمن الحماية.

جورجيا ليست بعيدة عن هذه الصورة فهي دولة ممسوكة ومراقبة وهي أيضا نتاج مركب لتوازنات إقليمية ودولية. فالرئيس المستقيل/ المقال ادوارد شيفاردنادزه هو نتاج توليفة مختبرية أنتجتها سياسات دولية وإقليمية. فقبل تسلمه منصب رئاسة جورجيا تمتع بموقع مهم كآخر وزير خارجية «سوفياتي» في عهد الرئيس الأخير للاتحاد السوفياتي. ومن موقعه ذاك نجح في نسج سلسلة خيوط كالعنكبوت فلعب دورا سيئا في دك المعقل السوفياتي مقابل إعادة انتاج دوره السياسي كرئيس مقبل لجورجيا.

المعركة في جورجيا إذن ليست محلية وأن ظهرت أمام شاشات التلفزة وكأنها معركة حريات ديمقراطية. فالمعركة هي نوع من الحرب على السلطة في إطار تطور جديد بدأ يشق مجراه السياسي في دائرة آسيا الوسطى بعد غياب قسري لروسيا الاتحادية دام قرابة عشر سنوات. ودولة مثل جورجيا تتمتع بموقع استراتيجي بين روسيا وتركيا يعطيها حيوية أو على الأقل يوفر لها قابلية دائمة للحراك والانتقال من معسكر إلى آخر.

تجدد الصراع على جورجيا ليس انقساما داخليا مجردا عن البيئات الإقليمية والمحيطات الدولية. فالقراءة الداخلية للصراع لا تكفي ولابد من إعادة ترتيب العناصر المحلية ووضعها في صورة المتغيرات الإقليمية والدولية. فالخارج (الأجنبي) قوي الحضور في تلك المنطقة المشلولة الإرادة التي تعاني من فراغ أمني (سياسي) وبالتالي لابد من تعبئة الفراغ بقوى بديلة ليست بالضرورة أن تكون محلية الانتاج

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 444 - الأحد 23 نوفمبر 2003م الموافق 28 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً