بعد حوادث سبتمبر/ أيلول صدرت دعوات حثيثة ولجوجة من مفكرينا الاعزاء لتجديد الفكر الديني أو إعادة صوغه وفق منظورهم، وهو أحادي الجانب أيضا.
أولا: مع اكتظاظ العصر الحديث بالأفكار والاطروحات الجديدة، بدأ خروج رؤى مختلفة للكثير من المفكرين الليبراليين لفهم الفكر الديني بحسب منظورهم، واختلف المفكرون الليبراليون العرب هؤلاء أيما اختلاف في أساليب وأدوات القراءة منذ بدء ظهور الحداثة الغربية بشكلها التنظيري. حتى وصل الأمر في بعض الأحايين إلى تهييج الشارع عبر إطلاق بعض الاطروحات غير المألوفة في فهم «النص الديني». ولعل أهم من قام بهذا العمل محمد أركون، علي حرب، حسن حنفي، حامد أبوزيد وغيرهم.
إلا أن الساحة أيضا شهدت بعض الأصوات الفكرية الدينية تأطرت في صور التجديد مثل سماحة السيد محمدحسين فضل الله، أو يحيى محمد، السيدمحمد تقي المدرسي، طه عبد الرحمن، محمد مجتهد شبستري، محمد عمارة والكثير غيرهم. وهنا يجدر القول بداهة إن طرح أي رأي في تجديد أية حركة، مثل الشعر الكلاسيكي أو القديم أو في المسرح، لا يمكن أن يتم بغير أهله وذوي الاختصاص في ذاك المجال. إذ إنه من المستحيل بل والمضحك المبكي أن يدعو مهندس أو طبيب ليس له علاقة بالشعر أو الأدب لتجديد في حركة الشعر أو في خطابه وموضوعاته أو لغوياته أو صوغ منظور جديد للمسرحيين. فإذا كان الأمر كذلك في شئون دنيوية أدبية مثل الشعر والمسرح، توضع لها شروط أكاديمية أو أدبية معينة من إتقان أصول البحث والتخصص الضليع في هذا المجال بكل ما في الكلمة من معنى، فكيف يصبح الأمر عند تناول قضية مهمة جدا - مثل تجديد الفكر الديني - شائكة حتى على أهل الاختصاص نفسه. هل من المنطق العلمي أن يتم تناولها من قبل مفكرين هم في الأساس ليسوا رجال دين، خصوصا إذا اعتمدنا المنطق الأرسطي الأوروبي، أن كل رجل دين مفكر، ولكن ليس كل مفكر هو بالضرورة رجل دين. ثم أن البداهة الثانية تقول يجب أن تكون هناك آليات لفهم النص، كالعلم بقواعد اللغة التي ورد بها النص والاطلاع على أدبيات هذه اللغة ومعاني ألفاظها واستنطاق النص من دون تحميل السؤال على النص وكيف يؤدي ذلك إلى اكتشاف معنى النص. وأخيرا لا يمكن إيجاد حالة إطلاقية تستغني عن الضوابط المحددة في قراءة النص الديني. ثم وهذا الأهم في التناول: لماذا كل دعوات التجديد في الفكر والخطاب الديني الإسلامي، تأتي بصراحة من المفكرين العلمانيين وأحيانا اللا دينيين وليس من حركة إصلاحية من بين رموز المؤسسة الدينية الإسلامية نفسها؟ ألا يستحق هذا التساؤل الإجابة؟
ثانيا: لا يجب أن يركن أصحاب الدعوة إلى تجديد الفكر الديني من منطلق النصوص الدينية فقط لمقولتهم الهلامية «من حق أي إنسان أن يجتهد ويقول رأيه في النصوص الدينية». فهذه المقولة استغلت للأسف من قبل عناصر شتى للتطاول أكثر من كونها جهدا في البحث الحقيقي للتجديد، حتى صارت كجواز مرور لفتح الباب لأي شخص لأن يجتهد أمام النصوص الدينية التشريعية والفقهية حتى من قبل بعض صغار المتدينين الذين يدعون العلم اللدُني في الدين. ومن هنا صدرت عشرات الفتاوى التي جعلت الآخر يوصم الدين بالتخلف والإرهاب. ألا يعلم من يتمسكون بهذه المقولة التي صارت أشبه بالحق الذي أريد به باطل، بأن كبار فقهاء ومراجع المسلمين حتى هذه اللحظة يقفون أحيانا عاجزين أمام الاتفاق على تفسير بعض الآيات والشرائع وتطبيقاتها في الإسلام، فكيف بهؤلاء المفكرين - الدعاة الجدد، وما مشروعية استخدام نعوت مثل اليوتوبيا والتخلف والجمود ضد التطور بقادر على حل هذا الإشكال بسهولة.
ثالثا: بصراحة متناهية. إذا كان هؤلاء يعتبرون الدين - ونقصد هنا الدين الإسلامي - أنه «ظاهرة دينية» يستمد منها رجال الدين وجودهم وقوتهم، كما يذكر ذلك محمد أركون في كتابه «قضايا في نقد الفكر الديني»، ولا يعترفون أساسا بأنه لا يجوز الاجتهاد أمام النصوص الإلهية باعتبار أن من حقهم ذلك، فهذا يعني أنهم لا يعترفون إذن بالإسلام كدين سماوي متكامل ونهائي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه بحسب قولهم هو ظاهرة وليس شيئا ثابتا وراسخا ولا عيب فيه. وما حشو كتاباتهم شيئا من الفلسفة الكلامية عن أن المقصود هو تجديد الفكر الديني وليس الخطاب الديني في المساجد، أو كما قال نصر أبوزيد «أليس النهي عن التقليد الأعمى للآباء من صلب دعوة القرآن الكريم؟»، ما كل هذا إلا دعوة مطاطية. وهنا يجب أن يسأل هؤلاء أتؤمنون ببعض القرآن وتكفرون ببعضه. لعمري هذا لن يكون مقنعا إلى درجة أن كاتبا من الليبراليين الجدد أنفسهم - تركي الحمد مثلا - صرح أخيرا في إحدى الندوات المحلية بأنه لا يمكن فهم كل ما يكتبه أمثال أركون في نقد «الظاهرة الدينية» كما يسمونها.
رابعا: لا يمكن الاختلاف مع المفكرين اللبراليين في قضية أن هناك عقولا متحجرة ومتكلسة بين المسلمين مازالت ترى أن «الكفارة فيها عتق رقبة في هذا الزمن، وبحرمة اصطحاب الورد للمريض في المستشفيات باعتبارها عادة غربية ولم تكن موجودة في عهد الرسول (ص)». ويجب التجديد في فكر هؤلاء لفهم الإسلام الذي يصلح لكل زمان ومكان بشرط فهمه بحسب عصره لأنه لكل العصور ولا يمكن أن يتخلف عنها. ومن هنا يجب إعادة النظر جديا في مقولة وضعها السلف ولعبت بها السياسة خصوصا زمن الأمويين والعباسيين، بشكل صارت معه عبأ على هذا الدين وضده لا معه. تلك المقولة التي تعتمد على مبدأ أن رجل الدين أو الخليفة أو ولي الأمر أيا كان، إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر ولا جرم عليه. وذلك لتبرير أفعال الأوائل ما فتح الباب لاستغلال هذا الشعار على مدى التاريخ الإسلامي من قبل كل الحكام حين يتأولون في كل مناحي الدين والحياة بما فيها قتل الأبرياء أو الزج بهم في السجون أو منع المرأة من العمل أو ظلمها في بعض قضايا الأحوال الشخصية، أو استخدام التمييز العنصري والطائفي ضد الشعوب أو حكم البلاد والعباد بيد من حديد مدعين بأنهم «خلفاء الله» في الأرض، أو كما قال الخوارج وتأولوا بأنهم هم المكلفون بوضع حكم الله في الأرض مستغلين كلمات ربانية من القرآن الكريم وهي «لا حكم إلا لله» لتحقيق مآربهم.
لكن ما لا يمكن فهمه بحسن نية هو وصف الفكر الديني وعقائده بالتراث والموروث الديني الذي جفت بعض عناصره وصارت من شواهد التاريخ، ولذلك يجب فتح باب الحرية في البحث في هذا التراث والموروث كما يذكر ذلك أبوزيد. وينسى من تبنى هذا الرأي بأن الفكر الديني الذي صدر عن الاجتهادات المختلفة في العصرين الأموي والعباسي ليس هو الدين الإسلامي في أبدع صوره بل هو ما فهمه بعض المجتهدين - ولعلهم مخطئون في بعض اجتهاداتهم - من أحكام هذا الدين وإقرارهم بعصمة آلاف الناس الذين كانوا حول الرسول، لأسباب سياسية وليست دينية، ولذلك لا يمكن البناء على ما اعتقدوه أو ما قالوه أو اقروه من أحكام واجتهادات فقهية خطيرة بنى عليها المسلمون فيما بعد أحكام دينهم. فإن كان المقصود هو نقد هؤلاء واجتهاداتهم بطرق علمية دينية تقوم على أساس قرع الحجة بالحجة من باب أدينك من فمك، فهذا أمر مقبول ضمن هذه الحدود أما نسف كل ما جاءوا به جملة وتفصيلا وبناء رؤى علمانية ليبرالية على أنقاضه فذلك العمل يشبه كمن استجار بالرمضاء من النار. وكما قال الكاتب السعودي عبدلله الحامد في إحدى الندوات المتلفزة عن قضية السلف الصالح «اللوم يقع على العلماء المحدثين الذين لا يريدون أن يتجاوزوا السلف، ولا يريدون التعامل معهم بصفتهم بشرا يخطئ ويصيب، بل ينظرون إليهم ويقدسونهم وكأنهم هم نص الكتاب والسنة، ويعتبرونهم هم المرجعية، وهذه هي الإشكالية».
خامسا: لماذا انبعثت فجأة ومن جديد قضية تجديد الخطاب والفكر الديني بعد 11 سبتمبر/ ايلول 2001، حتى لو ادعى البعض أنه لا علاقة لهذه القضية بتلك، فالأمر واضح وجلي وقد اتخذ هؤلاء المفكرون من هذه القضية الأميركية الداخلية «حصان طروادة» يحاولون به دخول المنطقة المحرمة عليهم سلفا بدعم قوة الطرق بالمطرقة الأميركية العسكرية قبل الدينية، حتى أن بعض هؤلاء بدأ يدعم تدخل الهيمنة الأميركية في صميم المناهج الدراسية. من هنا صارت حتى الجهات الرسمية التي طالما استفادت من الخطاب الديني المسيس في بلدها، تطالب بل وتعمل جاهدة لتحويل وتعديل - كما يقال - هذا الخطاب منذ الآن وحتى المستقبل المنظور. وما عقد مؤتمر للثقافة العربية في القاهرة في شهر يوليو/ تموز الماضي بمشاركة أكثر من مئة كاتب ومفكر عربي إلا من أجل - كما ذكرت أدبيات المؤتمر - صوغ خطاب ثقافي عربي جديد كان الهدف منه - ويا للأسف - أساسا هو صوغ خطاب ديني جديد وليس تحرير الفكر الديني من وصاية الدولة السياسية منذ عهد الأمويين وحتى اليوم.
وحسنا فعل العفيف الأخضر من الجزائر حين اعترف بأن المسئول الأساسي عن تخلف الخطاب الديني هو التعليم الديني الذي رعته الدولة التي سيست الدين لصالحها حتى صار يقوم على مناهج وموضوعات تراثية قديمة وأساليب لغوية عتيقة مستبعدا موضوعات العصر الحديث ولغته ما يجعل طلاب المدارس والمعاهد الدينية يعيشون في ازدواجية حادة بين ما يتعلمونه في المناهج وما يعيشونه في الحياة.
والخلاصة تفيد بأن التجديد - إن جاز التعبير - ربما سينبع من إعادة الالتصاق مع النص واستلهام الأحكام منه بالوسائل والآليات المشروعة مباشرة. ولعل الباحث الإسلامي في العقيدة والفقه، واستاذ الشريعة الإسلامية في سورية محمود العكام، أصاب جزءا مهما من حقيقة الدعوة إلى التجديد حين قال «انه قبل أن يلحَّ الغرب على تجديد الفكر الديني فنحن - ومنذ أمد بعيد - نلح عليه ونصرُّ عليه، لكن الغرب في إلحاحه يهدف من وراء التجديد إلى تجاوز النص كله، كما فعلت الثورة الصناعية عنده حيال النص الديني المسيحي».
ربما نحتاج قبل الغلو أكثر في الحديث عن التجديد في الفكر الديني بين الليبراليين المتأخرين وبين خصومهم من رجال الدين أن نعي الدرس جيدا بين التجديد الذي آمن به ودعا إليه الخوارج أو المعتزلة والفهم الرسالي الذي آمن به وطبقه الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وبلا تعصب مسبق لكلا الجانبين، ليتضح لنا سبيل الحق من الباطل في دعاوى التجديد. والله من وراء قصد الدعوة
العدد 443 - السبت 22 نوفمبر 2003م الموافق 27 رمضان 1424هـ