المناقشات التي تجري حاليا في واشنطن في سياق البحث عن «استراتيجية مخرج مشرف» من المستنقع الذي وجدت فيه إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش نفسها في العراق تناولت كافة الخيارات ما عدا الخيار الذي أعلن الكثير من المعلقين والسياسيين والخبراء العسكريين الأميركيين بمن فيهم ضباط كبار متقاعدون انه الخيار الأفضل، «إعلان الانتصار وإعادة القوات الأميركية الموجودة في العراق إلى الوطن». فالمناقشات التي تسبب فيها الارتفاع الحاد في عدد القتلى الأميركيين من جراء تصاعد عمليات المقاومة العراقية وخصوصا إسقاط طائرات المروحيات الأميركية المحملة بجنود الاحتلال، وفشل خطط إعادة بناء العراق، تناولت الكيفية التي يتم فيها إنجاح مشروع غزو وفق ما قاله وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد «إن استراتيجية المخرج في العراق هي النجاح... إن الهدف هو عدم المغادرة، إن الهدف هو أن ننجح في مهمتنا».
فالرئيس الأميركي الذي كان وصف عمليات المقاومة العراقية بأنها أعمال يائسة، قام بعد ثلاثة أسابيع بجمع أعضاء طاقمه للأمن القومي والسياسة الخارجية للبحث بصورة يائسة عن استراتيجية من شأنها أن تحقق الاستقرار وتغيير مجرى الجهود بعد الحرب تمكنه من مخاطبة الناخبين الأميركيين لإبلاغهم بنجاح حملته في العراق ليصوتوا لمصلحة إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية، وهو أمر دفع بعض حلفائه السياسيين إلى القول بأنه يسير في الطريق الخطأ.
فجهود الولايات المتحدة لما تسميه «إعادة إعمار العراق» بعد مضي نحو ثمانية اشهر على الاحتلال العراق وصلت إلى نقطة تحول رئيسية عندما أعلن البيت الأبيض عن مغامرته الجديدة الرامية إلى تسريع جدوله الزمني لإعادة السلطة السياسية إلى عراقيين، لكن لاتزال هناك الكثير من التفصيلات المزعجة التي يتعين على بوش وطاقمه للأمن القومي البت فيها في ضوء نظرة العالم إلى «مغامرة البيت الأبيض» الجديدة في اعتبارها انكسارا للقوة العظمى الوحيدة في العالم وإخفاقها في تنفيذ سياستها التي روجت لها طوال عامين مضيا بأن حربها على «الإرهاب» تتطلب تحويل العراق إلى «ديمقراطية» بعد الإطاحة بنظام حكم الرئيس العراقي. وهو الأمر الذي حدا بالرئيس بوش وكبار مساعديه إلى تأكيد عدم الانسحاب من العراق «قبل الأوان».
وتفتقت عقلية المحتل الأميركي الذي لا يريد الاعتراف بفشل مشروعه إلى إلقاء العبء على «ألعوبته» مجلس الحكم المعين الذي سيجري توسيعه بضم ممثلين عن كافة المحافظات العراقية والعشائر العراقية ليصار إلى تحويله كمؤسسة حكم يناط بها اتخاذ القرارات السيادية لكي تطلب من الولايات المتحدة إبقاء قواتها في العراق لحمايتهم، وذلك بالإعلان عن إنهاء صوري للاحتلال بتحويل قوات الاحتلال إلى قوة حماية تنظم وجودها اتفاقات تعقد بين الجانبين، يتم بموجبها إعادة نشر القوات الأميركية في قاعدتين أو أكثر تضم عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين تضمن بقاء العراق في الدائرة الأميركية وتشكل تهديدا للدول المجاورة وتحديدا لسورية وإيران. وما تخطط له الولايات المتحدة في العراق سيكون على غرار ما حدث في فيتنام الجنوبية قبل تحريرها في العام 1975 بعد أن بلغ عدد القتلى من الجنود الأميركيين أكثر من 58 ألفا. ولن يكون مصير مجلس الحكم بأفضل حال من مجلس حكم سايغون. وقال رامسفيلد في تصريح له خلال زيارته لليابان «الإدارة الأميركية لم تقرر بعد متى ستنهي احتلالها للعراق وتواصل عملية استبدال قواتها هناك»، مضيفا «تسريع الأمور السياسية لن يؤثر على الخطط العسكرية».
وأظهر استطلاع للرأي أجراه «معهد غالوب» الأسبوع الماضي أن نحو ثلثي الأميركيين يعتقدون أن الحرب في العراق تسير بصورة سيئة وأن 54 في المئة لا يوافقون على معالجة بوش للحرب. وقال مدير مركز ماريست لاستطلاعات الرأي غير الحزبي لي ميرنغون «إن الناس منقسمون حقا على السبب الذي دفعنا إلى دخول الحرب ولا يبدو أنه توجد هناك استراتيجية كبيرة للخروج وأن ما اعتقدنا أنه موجود في العراق لم يكن موجودا». وقد وجد مركز ماريست أن هناك نسبة 28 في المئة من الهبوط في الموافقة العامة على معالجة بوش للحرب منذ شهر إبريل/ نيسان الماضي. كما أن نسبة الأداء الكلي لبوش هبطت بصورة حادة عن الرقم القياسي 90 في المئة تأييدا لهذا الأداء بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول والآن فإن النسبة الآن هي 54 في المئة.
ويقول الخبير في السياسة الخارجية في «معهد بروكينغز» في واشنطن إيفو دالدر انه «في داخل أميركا، فإن الجدل الذي ضخم بصراحة طبيعة الأخطار من أجل تبرير العمل العسكري قد قوض صدقية بوش لدى الجمهور الأميركي، لأن التهديد الذي اعتقدنا أنه موجود فعلا في كوريا الشمالية، وموجود فعلا في إيران، وقصد التقليل من هذا التهديد. ويعود ذلك جزئيا إلى أنه من السهل التعامل مع عراق اعتقدنا أن لدينا تجاهه خيارات عسكرية جيدة مما لدينا بالنسبة لكوريا الشمالية إذ لا توجد لدينا أية خيارات».
ويهدد ازدياد عدد الجنود القتلى وتصاعد كلفة الحرب واستمرار الفوضى يهدد بتحويل الوضع كله من خيبة أمل إلى كارثة وتهدد فرص إعادة انتخاب بوش، وليس من قبيل المصادفة أن أول إعلان سياسي متلفز يظهر بوش في بدلة طيار «لمهمته المنجزة» على متن حاملة الطائرات أبراهام لينكولن، تبناه المرشح الديمقراطي جون كيري وليس اللجنة القومية للحزب الجمهوري.
وفي الشارع كما في المقاهي والإذاعات فإن الحرب على العراق تؤثر على الاقتصاد الذي يعتبر ذا أهمية قصوى للناخبين. وقال رئيس لجنة الحزب الجمهوري في ولاية واشنطن كريس فانس «أعتقد أن العراق هو القضية الأكبر في أذهان الناس الآن، فالناس قلقون. إنه وضع متفجر وغير مستقر ولا يمكن التنبؤ به».
ويعزو مراقبون تغيير بوش لموقفه من ضرورة وجود دستور جديد للعراق تتبعه انتخابات عامة إلى إقامة حكومة مؤقتة من نوع ما، إلى فشل مجلس الحكم الحالي في العمل وضعف التأييد له في أوساط العراقيين وتصاعد الرفض الشعبي للاحتلال الأميركي. وقال مدير الإعلام في البيت الأبيض دان بارتليت إن التغيير في الاتجاه كانت قضية «تكيفت مع الظروف. إن الاستراتيجية تبقى نفسها: دعونا نعطي القوة والسلطة للعراقيين بأسرع وقت ممكن. وربما كان يتعين على تكتيكاتنا أن تستجيب للوضع على الأرض».
وبدأ الناطقون باسم إدارة بوش تبرير هذا التغيير السياسي على أنه الخطوة المنطقية القادمة بدلا من اعتباره تحولا عن السياسة السابقة. وتأمل إدارة بوش أن يؤدي الإعلان عن هذه الخطوة إلى إظهار انخراطها في العراق بشكل جديد قد يؤثر في تقليل الهجمات التي تتعرض لها قوات الاحتلال في العراق.
وترك تسريع البيت الأبيض لنقل السلطة إلى «عراقيين» بوش مكشوفا للاتهامات بأنه يتحرك بتهور لإخراج نفسه من ورطة العراق، لذلك حاول استبعاد هذه الصورة في اليومين الماضيين قائلا «إن القوات الأميركية ستظل في العراق إلى أن يكون سليما وآمنا».
وقال الخبير في شئون المنطقة العربية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أنتوني كوردسمان، الذي عاد الأسبوع الماضي إلى واشنطن بعد جولة بحثية له في العراق استغرقت عشرة أيام «إن نقل السلطة لن يكون سهلا ومفرحا، بل سيكون جهدا مستمرا في عملية بناء دولة بقوة السلاح». أما السفير الأميركي السابق في «معهد الشرق الأوسط» ديفيد رانسوم فإنه يعتقد أن بوش قد يواجه مشكلات متعددة إذا لم يتحسن الوضع وسيوجه له الديمقراطيون انتقادات وسط الحملة الانتخابية وقد يضطر إلى أن يطلب من الكونغرس المزيد من الأموال للحرب وسيتحول الطقس في العراق إلى طقس حار مرة أخرى. وأضاف رانسوم «طبعا فإن بوش سيوجه أنظاره إلى الانتخابات»
العدد 443 - السبت 22 نوفمبر 2003م الموافق 27 رمضان 1424هـ