الحديث عن الرقابة على الإنترنت يفترض مسبقا أن تكون هناك أخلاقيات وقيم يتم وفقا لها أي شكل من أشكال الرقابة وتجري على أسسها محاسبة من يتجاوزها. وبالفعل فقد طورت الإنترنت قيما راقية من أجل توفير الحماية لمواطني مجتمعها الإلكتروني أو التخيلي، الذي بنته تقنياتها وقنوات بثها. وأصبحنا نقرأ في الأدبيات الأجنبية الرصينة تعابير مثل (Netiquett) المنحوت من التعبير الإنجليزي (Net Etiquette)، يتحدث عن مفاهيم محددة تضع على عاتق مطور تقنيات الإنترنت ومستخدمها التزامات معنوية لاتقل نبلا عن تلك المعمول في المجتمعات التقليدية. وبالقدر ذاته تزود الجهة المسئولة أو المعنية بمراقبتها مقاييس تحاسب على أساسها من يتجاوزها. ومن الضرورة بمكان أن نشير هنا إلى أن بعض هذه القيم، نظرا ليفاعة عمر الإنترنت، لاتزال تثير الجدل الأمر الذي يقتضي من الجهة المعنية بمراقبة الإنترنت في بلدها توخي الحذر كي لاتقدم على إجراء يكون مدمرا وربما يقود، في أحيان كثيرة، إلى واد مبادرات جيدة قد تبدو في ظاهرها منافية لتلك القيم، أو حتى متجاوزة لها.
وقد عرفت البحرين، شأنها في ذلك شأن مجتمعات أخرى، ومنذ تدشين خدمات الإنترنت صراعات حادة بين مستخدمي الإنترنت ومطوري مواقعها من جهة والجهات الرقابية والهيئات المعنية بمراقبة ما ينشر أو يبث على الإنترنت من جهة ثانية، عكست في مراحل معينة، وإلى حد بعيد، طبيعة الحالة السياسية التي كانت تسود البحرين وتنظم العلاقة بين فئات المجتمع وهيئاته المختلفة.
لقد دشنت خدمات الإنترنت في البحرين في نهاية العام 1995، لذا فعلى امتداد النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وفي مرحلة سيادة قانون أمن الدولة، سيء الذكر، ساد القمع «التخيلي»، شأنه شأن «القمع التقليدي» سلوك مؤسسات الدولة، والجهات ذات العلاقة بها، ووصل الأمر إلى توظيف خبراء في أمن الإنترنت، لا لشيء سوى مراقبة البريد الإلكتروني، لمن صنف حينها أنه يقع ضمن فئة «المشاغبين» أو «الخارجين على القانون».
واليوم تشهد المواقع البحرينية على الإنترنت حملة «إغلاق» تشن تحت شعار «منافاتها لقيم المجتمع وتجاوزها للقوانين المعمول بها في المملكة»، وقد وصل الأمر إلى تصريحات تحريضية أدلى بها، وللأسف الشديد، بعض الأعضاء في السلطات التشريعية لم يترددوا في كيل المدح لمثل تلك الإجراءات العشوائية التعسفية. وقبل الخوض في هذا الموضوع الشائك، لابد لنا من التأكيد بل والإصرار على مطاردة ومعاقبة، وفقا للقانون، كل من سولت له نفسه استغلال الإنترنت من أجل تدنيس قيمنا أو المساس بقوانين مملكتنا، لكننا في الوقت ذاته، وبالقدر ذاته لايمكننا القبول أخذ البرئ بممارسة المجرم، من خلال التعميمات غير المسئولة.
وطالما أن الأمر مرتبط بوزارة الثقافة والإعلام، فمن الصعب القبول بأن وزيرة الثقافة والإعلام توافق، بل حتى أن تفكر، وهي أول المدافعين عن حق المواطن في التعبير عن أفكاره، على مثل تلك الإجراءات. بل ولربما كانت هي شخصيا أكبر ضحايا إصرارها على الدفاع عن ذلك الحق. إن من تابع الشيخة مي، على امتداد السنوات العشر الماضية وهي تحفر، بأناملها الناعمة المجردة، في الصخر كي تهيئ الطريق أمام مشروع ثقافي عربي يتجاوز حدود البحرين، لا يمكنه أن يقبل بأن تكون هي المسئولة عما يجري اليوم بشأن مواقع الإنترنت. إذ لا يمكن لمن حول ربيع البحرين إلى فصل ثقافي خامس بين فصول السنة الأربعة أن يقدم على مثل تلك الخطوات.
ولعله من المفيد هنا إلى أن مثل هذه الإجراءات، والقصود بها تلك التي تناولت مواقع غير تلك التي تمس بقيمنا وقوانين بلدنا، من شأنها أن تسيء إلى مشروع حضاري- ثقافي - تنموي تبنته حكومة البحرين مؤخرا والذي هو «الجائزة العربية للمحتوى الإلكتروني»، والتي قد تحظى برعاية من لدن أعلى مؤسسات الدولة. ألأهم من ذلك هو مشاركة البحرين، رغم صغرها سكانيا واقتصاديا، بثمانية أعمال إلكترونية سوف تتقدم بها للمنافسة في جائزة القمة الإلكترونية، وبالتالي فإن إجراءات غير مسئولة تجاه المحتوى الإلكتروني، وفي القلب منه محتوى مواقع الإنترنت البحرينية، من شأنه أن يسيء إلى هذه المبادرة البحرينية الجريئة، إن لم يكن سببا في تدميرها.
وكي نجرد السلبيات من مقوماتها ونحولها إلى ظاهرة إيجابية، فلعل ما شهدناه في الآونة الخيرة من هجمة على مواقع الإنترنت يتحول إلى دعوة مسئولة إلى ورشة عمل جادة وبناءة يشارك فيها خبراء دوليون ومحليون يتناولون موضوع «الرقابة على الإنترنت» على طاولة النقاش والبحث. ولاينبغي أن نستبعد أن تكون البحرين رائدة في هذا المجال، ولنا في سوابق بحرينية أخرى أملا يملأ نفوسنا بالثقة في إمكانية تحقيق ذلك.
كانت البحرين سباقة في معالجة موضوعة «الديمقراطية» التي تصدى لها المشروع الإصلاحي الذي قاده جلالة الملك وحقق الكثير من الإنجازات التي تنعم بها البلاد اليوم، بما فيها تعزيز دور السلطات التشريعية.
وعلى مستو آخر وفي القطاع الثقافي كانت الشيخة مي رائدة على مستويين: الأول تناول «الثقافة من زاوية تنموية حين أطلقت شعار «الاستثمار في الثقافة»، وأصرت على إشراك القطاع الخاص في تمويل مشروعاتها الثقافية التنموية، والثاني البرامج الثقافية الجريئة التي مارست دورها في تحريك بحيرة الثقافة العربية الآسنة ووضعتها أمام تحديات فكرية من نمط جديد وآفاق رحبة
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2337 - الأربعاء 28 يناير 2009م الموافق 01 صفر 1430هـ