مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني، رجل دين ذو رؤية سياسية متميزة، قلما تجدها في رجل دين آخر، لم يقلل من شأنها مشهده في الواقع الرسمي اللبناني، بل أضاف إليها. فمشهد التوافق الوطني اللبناني الذي تم تثبيته بين الجانب الرسمي والمقاوم لم يجعل من مسافة فارقة على مستوى الشخوص المقاومة، سواء الرسمي منها أو المقاومة. الشيخ قباني تكلم لـ «الوسط» عن فقه السياسة والفتاوى والمسئول عن الفتاوى الجهادية، وعرج على واقع الاحتلال الأميركي للعراق مذكرا الإدارة (إدارة الشر والحروب) بأن عليها أن تعود إلى سويتها، وتتعاطى مع العالم على أساس العدل، لأن العدل أساس الحكم، فإن لم تفعل، فقد قررت أن تغرق في الوحل العربي، هكذا كانت نبرة قباني، وكان هذا اللقاء:
بعض المسلمين يطرحون قضايا متعلقة بالسياسة، ومع ذلك توجد أجوبة مختلفة من مختلف هيئات علمائية، وهناك فتاوى غير صادرة عن أهل العلم، وإنما عن زعماء سياسيين تفتي بهذا الاتجاه أو ذاك، مثل قضية الجهاد في أفغانستان، أو بعض العمليات التي تحصل في مختلف الأمكنة، لمَ لا تشكل هيئة لكل المسلمين للإفتاء في مثل هذه المسائل الخطيرة؟
- الأمور التي ضربتم بها الأمثال، وصدرت فيها مواقف، هذه ليست فتاوى ولا اجتهادات، فليس كل من تكلم يفتي أو يجتهد، فللفتوى في الإسلام قواعد لا يعرفها إلا العالمون، وجمهور الناس عندما يسمعون عن موقف في قضية من القضايا، تراهم يطلقون كلمة أن هذا الحزب أو هذه المنظمة أفتت، فالفتاوى تصدر عن العلماء وليس عن الحركات والمنظمات والهيئات أو التنظيمات السياسية، حتى لو كانت دينية.
لكن المشكلة أن الغرب يعطي التصريحات الصادرة عن المنظمات السياسية بعدا دينيا، فيقول إن هذه هي الفتوى وهذا هو الإسلام، بينما لو أفتى المراجع وأصحاب العلم، فإن أصواتهم لا تصل قياسا بأولئك الذين يقومون ببعض العمليات التي تورط الأمة كلها، ألا يمكن أن نحدد ونقنن مصادر الفتوى لنقضي على هذه المشكلة؟
- ما أردت أن تقوله إن البعض يبعث بشريط مسجل، ليقول لجماعته إنه وبأمر من الدين قوموا بمهمة أو هجوم معين، فيرى الغرب أن هذا من الإسلام، إذا كان هذا المقصود من السؤال، فنحن نقول ان الغرب إما يجهل الإسلام، أو يحمل الإسلام ما لا يتحمله، فالفتاوى إما أن تصدر عن رجال الدين في الأزهر وإما في النجف، وإما أن تصدر عن علماء الدين المتمكنين سنة أو شيعة، ولا تصدر الفتوى أو الاجتهاد من هيئة أو جمعية أو منظمة.
ألا تجد أن هناك جزءا من التردد عند علماء الدين لمواجهة هذا الاتجاه، نتيجة المساحة التي تمتلكها أمثال هذه التيارات والمنظمات؟ وإلى أي مدى يمكن توجيه النقد إلى هذه المنظمات التي تخلق ردة فعل عكسية تجاه وحدة المسلمين؟
- الفتوى لا تكون في أمر عام وشامل، وإنما لكل حالة سؤال، ولكل أمر جواب، ولا أعتقد أن تكون هناك ردات فعل على القول العلمي من عالم أو مجتهد عندما يتحرى الصواب في المسائل المعروضة عليه.
ماذا في السعودية
كيف ترى ما يجري في السعودية؟
- لا توجد في المملكة العربية السعودية حالات إرهاب أو تشنج، وإنما توجد بعض الحالات التي يعالجها المسئولون بكل حكمة ودراية، فهناك تضخيم لما جرى في السعودية في بعض الحالات، وربما يهم الأجنبي أن يضخم هذه الحالات، حتى يفتعل سمعة غير سليمة عن المملكة العربية السعودية.
أميركا في هجومها على العالم الإسلامي، نلاحظ لديها أطروحات غير سياسية، تتوسط الإرهاب، وتستغل بعض الأطروحات لطرح مشروع عام أكبر من الحال الأمنية، والدخول إلى مسألة القضاء والتربية والتعليم، ومجموعة اقتراحات لإحداث تغييرات كبيرة على هذا المستوى، وليس مستوى الاقتصاد والمصارف فحسب، وإنما على مستوى الثقافة الدينية والتربوية، هل هناك استعداد لمواجهة هذا المشروع؟
- الإدارة الأميركية تنتهج سياسة أميركية غير مبررة، فهي بررت حربها على العراق واحتلالها له بوجود أسلحة الدمار الشامل، وحتى الآن لم يثبت وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق، وقد عمل بعض الأميركيين على محاسبة إدارتهم لتبريرها الحرب على العراق، وكذلك في بريطانيا. وهنا أقول الإدارة ولا أقول الشعب الأميركي ولا أميركا، لأن هذه فترة متشنجة وغير عقلانية تمر بها الولايات المتحدة، ونحن نأمل أن تعود الإدارة الأميركية إلى صوابها، وتحافظ على سمعتها في العالم.
إن أميركا تبرر دعوتها إلى تعديل المناهج التعليمية في العالم الإسلامي، بأن التعاليم الإسلامية تعلم الإرهاب، وهذا كذب، ولا نقبل أن يتدخل أي كان في شئون ديننا، حتى لو كانت أميركا بما تملكه من «أسلحة الدمار الشامل»، فليست العبرة فيما تطلقه الإدارة الأميركية من اتهامات، لأنه لم يعد لها صدقية في اتهاماتها بعد ادعائها بوجود أسلحة الدمار الشامل في العراق، فقد تبين كذب هذا الادعاء. فالعالم وأوروبا كلها متذمرة من سياسة الإدارة الأميركية، ولكن هذا التذمر لا يصل إلى درجة الجفاء، لأن الدول بحاجة إلى سياسة لتدبير الأمور ما بينها، ولا تتجه الدول الحكيمة إلى الصراع في كل ادعاء تطلقه الإدارة الأميركية.
المأمول أن تعود الإدارة الأميركية إلى صوابها، فما يجري اليوم في السياسة الأميركية ليس هو الصورة الحقيقية للسياسة الأميركية التي يعرفها العالم قبل حوادث 11 سبتمبر/ أيلول، فلماذا هذا الانقلاب الخطير في السياسة الأميركية؟ فغالبية الظن أن اليهود الصهاينة الذين يريدون أن يحكموا العالم، وهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، هم يستخدمون الولايات المتحدة وقوتها وقدراتها، كما يستخدمون في بعض الأحيان سياسات الدول الأخرى لتحقيق أهدافهم، فإذا تحققت تلك الأهداف، وإلا فإنهم ينتهكون حرمة الدولة التي كانوا يتعاملون معها حتى إذا لم تتحقق تلك الأهداف، ولو كانت الولايات المتحدة نفسها.
ألا يتذكر الناس والعالم عندما كان نتنياهو في الحكومة الإسرائيلية، وبعد أن قبضت الولايات المتحدة على أحد الجواسيس اليهود (يهودي أميركي) سرّب أسرارا عسكرية أميركية إلى «إسرائيل» في منتهى الخطورة، أعطت «إسرائيل» أسرارا تكنولوجية راقية جدا لا يجوز أن تملكها دولة أخرى، عند ذلك صرح نتنياهو وهدد بأنه إذا لم يطلق سراح هذا الجاسوس، فإننا سنحرق واشنطن، ولكن أميركا لم تطلق سراحه، لكونه شخصا لديه القدرة على الحفظ بصورة تمكن «إسرائيل» من استخدام هذه الأسرار، عدا الوثائق التي سربها، إذ اتهمته أميركا بأنه شخص مزدوج الولاء، فعندما يهدد نتنياهو واشنطن بهذا الأمر، فهذا يعني أن «إسرائيل» لن تكون وفية مع أية دولة تتعامل معها حتى مع أميركا.
الوضع العراقي
الوضع الأمني في العراق مأسوي وفوضوي، ولكن هناك أمورا خطيرة تحصل على المستوى الاقتصادي، ومنها خصخصة 150 مصنعا للكهرباء والماء، وهناك بيع بعض المؤسسات الاقتصادية المحدودة، والأخطر منها بيع المصارف الوطنية في العراق، التي ستعرض على المناقصات في السوق الحرة، وهذا يعني أن العراق سيكون ساحة مباحة ومفتوحة لكل الشركات، بما فيها الشركات الإسرائيلية تحت عناوين الشركات المتعددة الجنسية، أليس من المفترض على هيئة العلماء إذا ما تشكلت أن تلعب دورا في رص الصفوف في مواجهة هذا الخطر، وتحذر من بيع هذه القطاعات الحيوية على هذه الشركات؟
- ليس هناك في العراق دولة ولا من يمكن أن يبيع أو يمتنع عن بيع بعض القطاعات الحيوية والاقتصادية في العراق، وإنما المحتل الأميركي هو من ينظم هذا البيع بشكل صوري مع أية جهة يفترض أنها شرعية، ليصبح هو المهيمن على العراق، ولكن يمكن القول: إنه لن يقر للولايات المتحدة قرار في العراق، لأن الأمن الحقيقي لا يمكن أن يكون بالقوة. الأمن يتحقق عندما يشعر الشعب بوجود دولة وحكومة شرعية بالمعنى الحقيقي الذي يطمئن إليه الشعب العراقي، فإذا لم يتحقق هذا الأمر في العراق، سيظل حبل الأمن مضطربا.
نحن لا نريد له أن يبقى مضطربا، وإنما نريد عراقا معافى وسليما، حرصا على العراق والشعب العراقي الشقيق، ليشارك إخوانه العرب في قضاياهم وهمومهم، فكيف يتحمل اليوم وحده كل الهموم السابقة، والهم الأكبر الذي دهم العراق بعد الاحتلال الأميركي؟ فالعراق يعيش اليوم مصيبة تاريخية كبرى، نسأل الله أن يجعل له منها فرجا ومخرجا.
تعدد المذاهب والأديان والتيارات السياسية في تجربة لبنان أعطى استقلالية واضحة للبنان، وشكل وضوحا في مساراته وفرزه السياسي والديني، وقد بقي محافظا على وحدته الوطنية على رغم المحطات الصعبة التي مرَّ بها، كيف نقدم تعددية لبنان إلى الدول العربية بما فيها العراق؟
- لبنان كنموذج ورسالة خصوصا بعد حروب الفتنة التي امتدت أكثر من 16 عاما، يمكن تقديمها من خلال انتخاب مجلس شرعي جديد شارك فيه اللبنانيون جميعا، وإن كان بعض اللبنانيين لم يشارك في الانتخابات بعد اتفاق الطائف بنسبة كبيرة، إلا أن المشاركة أسست لمشاركة أكبر بعد انتهاء مدة المجلس النيابي الأول، إذ حصلت انتخابات كان حصيلتها مشاركة أكبر من مختلف التيارات، وكلما مر الزمن، شارك اللبنانيون في انتخابات مجلسهم النيابي، ومع هذه المجالس توجد حكومات شرعية يرضى عنها اللبنانيون في أكثرهم، لأنه لا وجود لحكومة في أي بلد تحوز الإجماع، وإنما تحوز رضا الأكثرية مع العملية الديمقراطية التي تجري.
في العراق لم يحدث حتى الآن ما حدث في لبنان سريعا، لذلك لبنان بعد «اتفاق الطائف» بدأت عافيته تعود إليه بسرعة كبيرة، حتى ان العاصمة اللبنانية بيروت، التي كانت مدمرة بالكامل في العام 1990، فإن زائرها اليوم يراها أفضل عواصم العالم عمرانا، ولا أعتقد أن العراق سيخطو هذه الخطوات السريعة، لأن هناك أطماعا أجنبية ليس في العراق فحسب، وإنما في المنطقة العربية من أجل امتصاص ثرواتها وبسط النفوذ عليها، وتحقيق مطامع وأهداف «إسرائيل».
«إسرائيل» لاتزال وستبقى ماضية في خطتها من أجل إنشاء دولة «إسرائيل الكبرى» من الفرات إلى النيل، وهذا يعني مزيدا من الاحتلال، وإلا ما معنى الخطين الأزرقين المرسومين على علمها، الذي يرمز أحدهما إلى الفرات والآخر إلى النيل؟ فإذا كانت «إسرائيل» لا تريد تحقيق هذا الهدف، فلماذا لا تزيل هذين الخطين عن علمها؟
نحن أمام كيان أجنبي محتل في فلسطين العربية، قام فيها منذ العام 1948، وهذا الاحتلال الأجنبي ماض في تحقيق أطماعه، والولايات المتحدة تصرح دائما وعلنا بأنها ملتزمة بأمن «إسرائيل»، بمعنى أن هناك ثنائية في بسط النفوذ والسيطرة على العالم العربي، وكل هذه التبريرات التي نسمعها في كل هذه الشئون، هي تنفيذ لهذه السياسة.
بقي على العالم العربي والإسلامي أن يدرك جيدا أن مصيبة العراق ستتكرر في أي بلد عربي آخر، إذا لم يسارع العرب إلى تحصين بلدانهم وتحقيق وحدة الشعب والدولة في كل وطن عربي، لأننا اليوم ينبغي ألا نقدم في أي بلد عربي على مصارعة دولنا، مهما تعددت الآراء واختلفت، لأن «إسرائيل» تفرح بأي اختلاف في أي بلد عربي بين الشعب ودولته.
أعتقد جازما أن القادة العرب مدركون الأخطار، وهم يسوسون الأمور بطريقة حكيمة حتى لا يخسر الوطن العربي أكثر فأكثر، في ضوء ما حدث ويحدث في العراق. فالأخطار كثيرة، ونحن لا نريد حرب أي دولة ولا عداءها، أما «إسرائيل» فموضوع آخر، لأنها كيان أجنبي محتل، لا نريد عداوة الولايات المتحدة ولا غيرها من الدول، وإنما الإدارة الأميركية الحالية ماهرة جدا في استجلاب الكره لها، من خلال سياستها التبريرية غير المبررة في العالم العربي والإسلامي.
سورية وإيران
ماذا عن تهديدات أميركا لسورية وإيران؟
- لا شك في أن التهديدات التي تطلقها أميركا على سورية وإيران، هي مماثلة للتهديدات التي أطلقتها أميركا ضد العراق، ولكنها إن نفذت تهديداتها بخصوص سورية وإيران، فإن هذا يعني مزيدا من غرق الولايات المتحدة في بحر العالم العربي العميق، الذي لن تنجو منه كما لم تنج من فيتنام، لأن سلاح الولايات المتحدة مهما كان ماضيا لن ينتصر على الحق، لأن صور الإباء والشهامة والكرامة والجهاد ستقف في وجه أي أطماع أجنبية في عالمنا العربي.
نحن نريد لأميركا أن تعود إلى صوابها، وتحافظ على سمعتها، من أجل أن يكون لها دور أصيل في العالم وليس دورا دخيلا كما يحدث في العراق من مطامع وكذلك في دول أخرى. فسورية وإيران لن تكونا لقمة سائغة للولايات المتحدة، فإن ظنت الولايات المتحدة أن باحتلالها العراق، سيصفو لها الجو في سورية وإيران، فإنها ستغرق في أوحال العالم العربي أكثر مما غرقت في أوحال فيتنام، ومن يعش يرَ.
وأعود فأكرر، ليس مهمتنا في العالم العربي أن نعادي أو نكره أي دولة في العالم، وأذكر أنه عندما جاء السفير الأميركي كروكر إلى لبنان، منذ أكثر من ثماني سنوات، وكان الاتحاد السوفياتي انهار، قلت للسفير الأميركي: إن الولايات المتحدة اليوم أصبحت هي الدولة الوحيدة والأقوى في العالم، وهذه نعمة على الولايات المتحدة، ونأمل أن تحافظ الولايات المتحدة على هذه النعمة، وأن تسخرها في خدمة الحق والعدل في العالم، وتسخرها من أجل الشعوب المستضعفة التي تطلب من يساندها، لا أن تنقلب هذه النعمة إلى نقمة على الولايات المتحدة بما تمارسه من ظلم.
كنت أقول له: إن عندنا مثلا في العالم العربي يقول «إن العدل أساس الملك» وأي قوة يجب أن تكون قاعدتها العدل، فإذا كانت قاعدتها الظلم، فستنهار مهما طال بها الزمن، فقد عشنا ورأينا كيف تنهار دولة كالاتحاد السوفياتي بما لديها من الأسلحة الذرية، ولم تستطع تلك القوة الذرية أن تحمي كيان الاتحاد السوفياتي عندما دنت ساعة الحساب، ولن تستطيع أي دولة حماية نفسها إلا بالعدل، ليس في وطنها فقط، وإنما في كل العالم. ونحن نأمل في عودة الولايات المتحدة إلى عقلها وصوابها، فالعالم كله متذمر من سياستها التبريرية وتسلطها واعتبار نفسها وصية على العالم والدول، وكأنهم تلاميذ في مدرستها
العدد 442 - الجمعة 21 نوفمبر 2003م الموافق 26 رمضان 1424هـ