العدد 441 - الخميس 20 نوفمبر 2003م الموافق 25 رمضان 1424هـ

المخضرمون... بين الدولة والايديولوجيا

فرق المعتزلة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد انقلاب المتوكل على المعتزلة مرت فترة انتقالية شهدت خلالها الفرق الكثير من الصراعات الداخلية نظرا إلى اضطراب علاقات الشيوخ بالدولة. كذلك مرت الدولة بدورها في حالات انقسام أسهمت في إشعال فتيل الفوضى بين الإخوة والأبناء والآباء وأولاد العم. فالانقلاب وتآمر ابن المتوكل على والده الخليفة ونمو نفوذ الترك وهيمنتهم على قرار السلطة كلها عوامل زادت من تشتت المعتزلة وضياعهم.

في الأيام الأخيرة التي سبقت الانقلاب برز دور جعفر بن حرب (توفي عن عمر 59 سنة في العام 234هـ - 848م ويقال 236هـ - 850م) إذ انتهت إليه رئاسة المعتزلة في وقته ونقل عن أستاذه المردار الكثير من الأفكار وأضاف إليها سلسلة من الأقوال من نوع «إن الممنوع من العقل قادر على العقل وليس يقدر على شيء»، وأجاز كما يقول البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق»: «إن كون العالم غير عالم بشيء» (153 - 155).

وعلى رغم سخافات كلامه التي وردت في كتبه مثل «متشابه القرآن» و«الاستقصاء» و«الأصول»، و«الرد على أصحاب الطبائع» اضطر الشعبي إلى الحكي عنه، حتى ان البغدادي نفسه ردّ عليه بعد فترة طويلة في كتاب أسماه «الحرب على ابن حرب». فأهمية ابن حرب أنه كان رئيس المعتزلة في عصره إلى جانب صديقه جعفر الثاني. فجعفر بن مُبشر (أبومحمد) كان - كما يقول ابن النديم في «الفهرست» - من معتزلة بغداد، و«كان فقيها متكلما، صاحب حديث، وله رياسة في أصحابه». (ص 208).

دخل ابن مبشر كصاحبه ابن حرب في معارك كلامية وكتب الكثير من الردود على أصحابه من المعتزلة، فرد على الجاحظ في كتاب، وعلى أهل البدع، والارجاء (ابن شبيب)، ورد أيضا على أصناف المشبهة والجهمية والرافضة وعلى أصحاب القياس والرأي، وله أيضا كتاب في الخراج.

توفي جعفر الثاني (ابن مُبشر) في وقت واحد مع جعفر الأول (ابن حرب) تاركا الكثير من الأفكار السلبية من نوع «إن الفاسق موحد وليس بمؤمن ولا كافر». وقال أيضا: «إن إجماع الصحابة على حد شارب الخمر وقع خطأ»، وإن «تأييد المذنبين في النار من موجبات العقول». (البغدادي، ص 153 - 155).

فالجعفرية - كما يطلق عليهم الجرجاني في كتابه «التعريفات» - هم «أصحاب جعفر بن مبشر وابن حرب». وهم «وافقوا الاسكافية وازدادوا عليهم أن في فُسَّاق الأمة من هو شرٌّ من الزنادقة والمجوس. والإجماع من الأمة على حد الشُّرب خطأ، لأن المعتبر في الحد النصّ. وسارق الحبة فاسق مُنخلع عن الإيمان» (ص 104).

من هم الاسكافية الذين يشير الجرجاني إليهم؟ إنهم كما يقول في «التعريفات» أصحاب أبي جعفر الاسكافي (محمد بن عبدالله) قالوا: «إن الله تعالى لا يقدر على ظُلم العقلاء بخلاف ظلم الصبيان والمجانين، فإنه يقدر عليه». (ص 39).

أهمية الاسكافي ليست فكرية بل في شخصيته المثيرة للجدل ودوره السياسي في عهد المعتصم الذي أعجب به «فقدمه ووسع عليه» كما يقول ابن النديم. إلى صحبته للخليفة كان من حلقة جعفر بن حرب إذ ضمه إليه وحضنه. فالاسكافي أصله من سمرقند فاختلف مع والده لأن الأخير منعه من طلب الكلام فغادر إلى بغداد واشتغل خياطا واحترف الكلام على طريقة المعتزلة فبلغ، كما يقول البلخي عنه، في «مقدار عمره ما لم يبلغ أحد من نظرائه». وحين نال الاسكافي مراده من السلطة اختلف مع أستاذه جعفر بن حرب ثم خالفه في أقواله وأسس فرقة مستقلة عرفت شهرة في بغداد.

عرفت فرقة الاسكافي بالاسكافية ويقول البغدادي عنها إنها أخذت أفكارها في القدر عن ابن حرب وزادت عليها ثم خالفته في بعض فروعها وقالت «إنه يجوز أن يقال إن الله يكلم العباد ولا يجوز أن يقال إنه يتكلم». وسماه الاسكافي «مكلما ولم يسمه متكلما» (البغدادي، ص 155 - 156). وأضاف الفخري في كتابه «تلخيص البيان» أن الاسكافي انفردت فرقته بقولها «إن الله لم يخلق العيدان ولا الطنابير وإنما الخالق لها ابن آدم» (ص 104). ويسخر ابن حزم في كتابه «الفصل» من هذه الأفكار والأقوال حين يذكر الاسكافية ويضيف إلى العيدان والطنابير المزامير والمعازف.

توفي الاسكافي في العام 240هـ (854م) في عهد المتوكل وبعد الانقلاب على المعتزلة وطردهم من الدولة. فالاسكافي بعد تلك الواقعة عاش عيشة ذليلة بعد عز عرفه منذ أيام المعتصم. وترك الكثير من الكتب على رغم سخافة أفكاره وأقواله، يذكر ابن النديم بعضها في «الفهرست» وأهمها الرد على النظام، وإثبات خلق القرآن، والرد على من أنكر خلق القرآن. وله أيضا الكثير من الردود على المشبهة والمجبرة وبرغوث (محمد بن عيسى برغوث) وعلى هشام وكتاب ابن شبيب في الوعيد. وله أيضا كتابات «النقض» مثل «نقض كتاب حفص» و«نقض كتاب الحسين النجار» وغيرها. (الفهرست، ص 213).

أهمية الجعفرية والاسكافية وغيرهما من فرق المعتزلة لا تكمن في أفكارهما أو تطويرهما لعلم الكلام بقدر ما كانت مجرد تكرار لحالات سابقة تأخذ عن بعضها بعضا وتضيف أشياء وتنقض أشياء أو تزيد على بعض الأقاويل مجموعة من الآراء التي قد لا تكون مهمة ولكنها قيلت للتمايز والانفراد والاستقلال عن الأستاذ. فشيخ فرقة في ذاك الزمن كان يعني الكثير للعامة أو لرجال الدولة. وأهمية هذه الكتلة من المخضرمين أنها عايشت عز المعتزلة في الدولة وفراقها لديوان الخلافة وانعزالها ودخولها في معارك كلامية من دون غطاء رسمي من الخليفة.

وأهمية هذا الجيل المخضرم الذي يشمل أيضا العبادية والجاحظية وصولا إلى الشحامية (آخر عنقود المخضرمين) أنه يشير إلى ألوان من التحولات السياسية والايديولوجية التي طرأت على الدولة والمجتمع في وقت واحد وأحدثت تغييرات عميقة في البنية الذهنية للأجيال اللاحقة التي أعقبت رحيل الجاحظ والشحام. فبعد رحيل رعيل جيل المخضرمين الذي عايش المعتزلة بين الدولة والايديولوجيا ستدخل حركة الاعتزالة محطة (طورا) جديدة في بيئتها الثقافية وبنيتها الذهنية والاجتماعية وستتحول إلى مدرسة عامة لا خوف منها ولا مخاوف عليها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 441 - الخميس 20 نوفمبر 2003م الموافق 25 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً