جاء تقرير البنك الدولي الأخير عن الحكم الجيد لأجل التنمية الذي تضمن دراسة مقارنة بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وباقي دولة العالم، ليعكس، وبلغة مباشرة وحقائق موثقة، حجم التباعد واتساع الفجوة بين ما اصطلح على تسميته بدول الشمال ودول الجنوب، ولن نقول بين الدولة الغنية والفقيرة. فمؤشرات الغنى والفقر هذه تحتمل وجوها ومعايير أخرى وهي تستحق أن تدرس بعناية. إلا أن اللافت في التقرير أنه بذلت في إعداده جهود كبيرة تبتعد كثيرا عن لغة التآمر ونظرية المؤامرة التي كثيرا ما احتمت بها الدول والأنظمة السياسية القائمة في المنطقة العربية وغالبية دول الشرق الأوسط لكي تداري سوءاتها وتراكم بذلك خيباتها على جميع الأصعدة التنموية والاجتماعية والسياسية من دون أن تكون هناك كلمة تقال للشعوب المغلوبة على أمرها التي ظل بعضها يحفر في الصخر ويقدم القرابين انتظارا لليوم الموعود الذي كثيرا ما انتظرته جموع الشعوب المسحوقة والمبعدة عن دوائر القرار إلى مواقع التهميش والاقصاء.
لقد أفصح تقرير البنك الدولي، الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا، عن الكثير من القضايا التي يجدر بنا وبالحكومات العربية وبقية دول المنطقة التحدث عنها بمزيد من الشفافية، وخصوصا أن التقرير يتحدث من دون مواربة عن أسس ما اصطلح على تسميته بالحكم الجيد الذي هو بالمناسبة ليس موضوعا سياسيا بحتا كما يفهم من تسميته التي أصبحت مصطلحا فرض نفسه وبقوة في ظل المتغيرات الدولية المتسارعة، والذي أصبح موضوعا يرتبط ارتباطا وثيقا بقضايا التنمية وهو يعتبر - أي الحكم الجيد - عاملا رئيسيا في دفع عجلة التنمية اقتصاديا واجتماعيا على اعتبار أن مفهوم الحكم الجيد هذا يرتبط مباشرة بمسائل جوهرية لابد من وجودها وتعزيزها وخلقها باعتبارها ضرورة ترتبط بقضايا المساءلة والحقوق ومسألة العدالة الاجتماعية وغياب التمييز وتعزيز المواطنة وتعزيز لغة الافصاح، إذ اتضح من خلال التقرير أن مسألة الحكم الجيد لا تعني فقط إحلال الديمقراطية أو حتى مجرد السيطرة على مظاهر الفساد بكل أنواعه المالية والإدارية، وإنما هي في الأساس تعني ممارسة السلطة العامة واحترام الحقوق لجميع الفئات والشرائح والالتزام بمتطلبات الأفراد على اختلاف انتماءاتهم. من هنا فإن البون يبدو واسعا وكبيرا بين ما تنادي به دساتير دول المنطقة وتشريعاتها من مساواة وعدالة وتأصيل جيد للحقوق والواجبات التي لا يمكن أن يختلف بشأنها اثنان، وبين ما هو مطبق فعلا على الأرض من غياب لمعظم تلك الحقوق علاوة على تهميش لفئات وأفراد وجماعات لحساب فئات تسيدت وارتبطت مصالحها بمنهجية حكم شرقي مستبد في طباعه ومعالجاته وفي الكثير من جوانبه. كما بين التقرير وبكل وضوح أن المعضلة الرئيسية تكمن في ضعف المساءلة العامة وما يترتب عليها من تراجع مستمر في مستويات النمو الاقتصادي والاجتماعي وتكريس تلقائي للغبن الاجتماعي، وكذلك الحال على مستوى الخدمات ونوعية التعليم والنظم الصحية وقضايا الشباب والطفولة والمرأة والفقر والبطالة... وغيرها، التي تكاد معظم دول الشرق الأوسط ودولنا العربية أن تلتقي عندها من ضعف طالما أفصحت عنه تلك الدول التي تظل عاجزة عن الوفاء بمتطلبات وحاجات أساسية بالنظر إلى ما بددته تلك الأنظمة من ثروات وجهود وطاقات لحساب فئات طفيلية خرجت كالفطر في مواسم القحط، بل ان تلك الأنظمة الشرق أوسطية، وبحكم انغماسها الفاضح في ممارسات الفساد، لم تكلف نفسها حتى مجرد التفكير في عواقب سياساتها التي ترتبط بمستقبل الشعوب الذي أكدت الحوادث وتراكم ملفات القضايا العالقة انه مستقبل غامض بكل أبعاده وتوقعات من يفترض أنهم قطعوا أشواطا في التخطيط له. فعلى سبيل المثال اعتبر التقرير أن مجرد الحديث عن الفساد أصبح بحد ذاته غير ذي جدوى للتغلب على قضايا الناس واحتقانات الواقع المعاش وخصوصا إذا علمنا أن دول الشمال تحديدا تجاوزتنا بمسافات يصعب علينا مجرد الحديث عن بلوغها في ظل تردي أوضاعها السياسية التي أرى أنه مضيعة للوقت وللجهود أن تسهب دولنا العربية، على الأقل، في الحديث عن اللحاق بها، فذلك غير ممكن عمليا لأن مجرى التطورات والتحولات العالمية ودخول مفاهيم اقتصادية واجتماعية وغياب دول وثقافات وأيديولوجيات ودخول ما هو بديل لها مع ما فرضته العولمة باعتباره مفهوما عالميا من تغيرات اجتماعية واقتصادية وحتى ديموغرافية وكذلك جغرافية أيضا، غيَّر بشكل كبير ومهول النظرة الشمولية والتقليدية التي كنا نرى بها العالم حتى في فترة زمنية قصيرة ربما لا تتجاوز السنوات العشر الماضية. فكيف بنا ونحن نتحدث عن إمكان اللحاق بدول الشمال ودول أوروبا تحديدا، وخصوصا أننا مازلنا نسير بطريقة سلحفائية مترددة مازالت تتصنع التحديث وروح المسايرة! هكذا فإن تقرير البنك الدولي عن الحكم الجيد يفترض مسألتين رئيسيتين بشأن علاقات الحكم الجيد، تتعلق الأولى بما اصطلح على تسميته بالتضمينية، فيما تتعلق الأخرى بقضية المساءلة. إذ يرى التقرير أن مسألة التضمينية يجب أن ترتكز على مفهوم المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص التي نجدها موثقة داخل براويز مذهبة في دساتير دولنا العربية والشرق أوسطية من دون أن تستطيع تلك المفاهيم الإنسانية الوصول إلى الإنسان البسيط الذي بات متعطشا إلى تلمسها في قوت يومه وحقوقه البسيطة والأولية ويحلم بتحقيق ولو الحد الأدنى منها من دون أن يجد ذلك ممكنا في ظل أنظمة مازالت ترتهن إلى الماضي بمفاهيم شمولية تعتاش على مقدرات الشعوب ومستقبلها من دون واعز من ضمير أو حتى مجرد الاحترام لدساتير دبجت فيها بلاغة اللغة وقوة القانون لتكون واجهات كاذبة لا تحترم معها إرادة الناس وحقوقهم التي أضحت مصادرة حتى بمفاهيم دستورية كثيرا ما جيرت لخدمة صناع القرار ومنتهكي سيادته وعلى مرأى ومسمع من الجميع.
أما المسألة الأخرى التي ركز عليها تقرير الحكم الجيد الذي نحن بصدد الحديث عنه، فتبرز في قضية المساءلة التي علينا أن نفهمها من منطلقات التمثيل الشعبي ومفهوم فصل السلطات وعدم تداخلها، وكذلك إنشاء الأجهزة الرقابية المستقلة، وهو مفهوم يراه التقرير للمساءلة الداخلية، فيما يرى أن المساءلة الخارجية تتحقق بقيام الشعوب بمساءلة حكوماتها عن جوانب التقصير والاهمال وكل ما يتعلق بحاضر ومستقبل الشعوب، إذ ان مسألة المحاسبة هذه بشقيها ترتبط وثيقا بمسألة ازدهار الحكم الجيد الذي يبدو أنه مازال بحاجة إلى تضحيات وصبر وسعة أفق وفهم أوسع من قبل المعنيين سواء داخل أجهزة الحكم أو حتى في قوى وتيارات المجتمع المدني التي يبدو أن أوضاعها هي الأخرى ليست على مايرام بفعل مؤثرات داخلية ترتبط بغيابها عن الممارسة الديمقراطية والمشاركة في صناعة القرار بحكم التهميش والاقصاء من قبل الأنظمة السياسية أو حتى بفعل غياب الممارسة الصحيحة واحترام الرأي الآخر داخل تلك المؤسسات ذاتها.
اللافت في التقرير ومعدي التقرير أنهم ينتمون إلى دول المنطقة، كما أن البنك بالمناسبة يعتزم نشر تقارير خاصة عن كل دولة على حدة في المنطقة سواء فيما يتعلق بما أسلفنا من ممارسات الأنظمة السياسية القائمة تجاه القضايا المصيرية مثل العدالة والفقر والتباين الطبقي الحاد والفساد أو حتى بالنسبة إلى دور المرأة ودور القطاع العام ودور القطاع الخاص بالنسبة إلى مسائل التنمية ومبدأ تكافؤ الفرص وحرية التعبير وفرص المشاركة في صوغ القرار الوطني ومسألة الفصل بين السلطات ودور مؤسسات المجتمع المدني.
أوضح التقرير وبتوثيق متميز أن دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحتل ذيل القائمة في تطبيق مفهوم الحاكمية الجيدة، إذ يربط التقرير هنا بين أنظمة الحكم في هذه الدول وأساليب إدارة الحكم وغياب لغة الافصاح وانعدام الديمقراطية وسيادة أنظمة سياسية مازالت رهينة لماضي متأصل في عقلية الساسة وصناع القرار ونكوص الوعي الشعبي عن أداء دوره المرتقب تجاه قضاياه ربما لانعدام الثقافة الحقوقية وحصر مفاهيم الوعي لدى شرائح ونخب انفصلت بفعل عوامل متعددة عن هموم الناس بشكل فعلي، كما أن لمحدودية التمثيل الشعبي وغياب منهجية الحكم الصالح في ظل المتغيرات العالمية الجارفة التي تجاوزت فعلا تخومنا السياسية ودخلت في نسيج حياتنا اليومية من دون أن نستعد لها أو نحتفي بقدومها بشكل جيد، بل اننا مازلنا نجهل انعكاساتها وتحولاتها المرتقبة، ويزيد من تأثير ذلك انعدام تأثيرنا باعتبارنا شعوبا في مجرد وقفها أو في كيفية التعامل معها، وتلك مصيبة المجتمعات غير المؤسسة بشكل سليم إذ تغيب الأحزاب وتحارب الكلمة وتسود الفوضى وتهمش نتيجة لذلك الرؤى والتوجهات العقلانية والحضارية والتحديثية ساعة بدواعي عدم تغريب المجتمعات، وأخرى بدعاوى المحافظة على العادات والتقاليد وغيرها من المسببات التي اختلقتها أنظمة الحكم الفاسدة وأجهزة المخابرات العتيدة لكي تضمن استمرارية الهيمنة وتكريس سطوة الحكم بفوقية تحسدنا عليها حتى شعوب القارة السمراء بما عرف عنها من فقر وقلة موارد وأمية.
من هنا فإننا نرى أن تحقيق إنجازات في مسألة الحكم الجيد تحتاج إلى عقلية جديدة في أنظمة الحكم السائدة في دولنا العربية وإعطاء متسعا من الحرية للرأي والرأي الآخر في منظومتنا الاجتماعية شريطة أن تطور قوى التغيير المجتمعي من مفاهيمها وطرق معالجاتها وتخفف تبعا لذلك من غلوائها الأيديولوجي لصالح تحقيق مصالح شعبية ترتقي بالإنسان والوطن، على أن يتفهم الجميع حاجات الناس في العيش بسلام وكرامة وأن ترتقي كل الحكومات والشعوب لتحقيق مفاهيم عصرية في أدوات الحكم وأساليب إدارته.
ولابد لنا من التأكيد هنا أن إشادة تقرير البنك الدولي بتجربة بعض الدول العربية التي على رأسها البحرين يجب أن تعد مفخرة لنا بوصفنا شعبا وسلطة سياسية، إلا أن ذلك لا يكفي بكل تأكيد، فالمطلوب بالنسبة إلينا باعتبارنا شعبا في اعتقادي أن نطور من تجربتنا بإدخال أساليب ديمقراطية إلى مجتمعنا الذي لا يشك أحد أن تجربتنا السياسية مازالت قصيرة العمر وتحتاج إلى نضوج أكثر وترسيخ أفضل وصبر أكبر وإخلاص شديد وروح مبادرة وخطوات شجاعة من قبل الحكم وقوى المعارضة على حد سواء في ظل ما قدم من معطيات وانفراجات سياسية وأمنية بحيث لا نقبل العودة إلى الوراء متذرعين بالخوف على المستقبل وعدم تكرار الأخطاء، فالمرحلة التي نعيشها تختلف كثيرا، والظروف القائمة هي الأخرى تختلف، كما أن ظروف التحولات الاقتصادية والضغوط الدولية وشروط البقاء المتاحة أمام الأنظمة السياسية لدينا تفرض تغييرا جذريا في هيكلية وعقل الحكومات وقوى المعارضة أيضا، ولابد من إفساح المجال أمام قوى التحديث لأن تمارس فعلها الإيجابي بصورة متزايدة، ولابد للأنظمة السياسية الحاكمة في منطقتنا أن تراهن على المستقبل وتستعد بشكل أكبر لتقبل تغييراته المقبلة من دون استئذان، مستفيدين من اخفاقات الماضي بعدم تكرارها إذ كلفتنا الكثير وأرهقت كاهلنا بملفات مازلنا نبحث لها عن حلول، مبتعدين عن التسويق لأنظمة وشعارات وزعامات لا تنتمي إلى عصر التحولات والعولمة ومشروعات التخصيص واقتصاد السوق الذي فرض علينا أجندته من دون أن تسعفنا الحيلة لمقاومته والتصدي لإرهاصاته المقبلة
العدد 440 - الأربعاء 19 نوفمبر 2003م الموافق 24 رمضان 1424هـ