زيارة الرئيس الأميركي لبريطانيا، وهي الأولى من نوعها على مستوى دولة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في 1918، تكشف بالملموس عن جوهر المواقف الحقيقية من سياسته الدولية. فالرئيس جورج بوش حاول التشبه بالرئيس وندرو ويلسون وبرنامجه المؤلف من 14 نقطة وتتضمن مسألة حق الشعوب في تقرير مصيرها. إلا أن الفارق بين الرئيسين/ البرنامجين واسع جدا إلى درجة من الصعب المقارنة بين الخطابين. فالأول كان يتحدث في نهاية الحرب العالمية الأولى وفي مناسبة حصول تحول خطير في أوروبا وهو نجاح البلاشفة في روسيا في الاستيلاء على الحكم في العام 1917. وخطاب ويلسون آنذاك جاء في سياق الرد الأميركي على الأفكار الاشتراكية ودعوات لينين لمقاومة الامبريالية وتحقيق الاستقلال والاشتراكية والتوزيع العادل للثروة. فويلسون أراد القول إن للولايات المتحدة أيضا رسالتها الإنسانية ومشروعها الدولي وهي تركز على الحرية والمساواة وحق الشعوب في تقرير مصيرها (الاستقلال عن الاستعمار القديم).
بوش الآن يقلد ويلسون ولكن كلامه يطرق على باب من حديد. فالظروف الدولية تغيرت والعالم يعاني من الاستعمار الحديث الذي تقوده الولايات المتحدة بعد انهيار دولة لينين ومعسكره الاشتراكي. المشكلة في بوش أنه يردد كلمات تفتقد إلى الصدقية وتحتاج إلى «أغبياء» لتصديق وعوده عن الحرية ونشر الديمقراطية في «الشرق الأوسط». والمشكلة الأخطر التي يعاني منها بوش وطاقمه أن ويلسون تحدث في ختام حرب طويلة (4 سنوات) عانت منها أوروبا بينما إدارة البيت الأبيض الآن تحث أوروبا على خوض حربه الجديدة تحت مسميات غير مقنعة وبقيادة مجموعة من الأركان مرتبطة إلى حد كبير بمافيات (لوبيات) تجار النفط ومؤسسات التصنيع العسكري. وأخطر ما في توجهات إدارة بوش هيمنة نزعة دينية متطرفة على ما يسمى بتيار «المحافظين الجدد» الذين يضمرون الشر للعرب والمسلمين ويؤيدون «إسرائيل» بقيادة شارون في السراء والضراء.
مشكلة بوش أنه رئيس فاشل وغير مقنع، فهو يخاطب العالم الإسلامي بالأسلوب الذي سبق للرئيس السابق رونالد ريغان وخاطب به العالم السوفياتي. والفارق كبير بين دين أنتج ثقافات وأسس حضارات ونقل العلم والمعرفة إلى شعوب الأرض وبين ايديولوجيا نجحت في السيطرة على دولة كبرى تدعى روسيا ولكنها لم تنجح في تأسيس بديل تاريخي يمكن أن تعتنقه أوروبا وتسير تحته على حساب ثقافتها وحضارتها وكنيستها.
الفارق كبير إذن بين ويلسون وبوش وبين العالم الإسلامي والمعسكر الاشتراكي. ويتعزز الفارق حين يتم النظر إلى الأسلوب المغامر الذي يريد به بوش قيادة حرب غير مقنعة حتى لدولة تعتبر هي أقرب حليف له في أوروبا. فبريطانيا تغلي كالمرجل ضده وضد أعوانه إلى درجة خاف خلالها أن يلقي خطابه في البرلمان، كما جرت العادة، خوفا من انتفاضة سياسية يفجرها المعارضون لحربه. فحتى أقرب المقربين إليه كانوا في حال يرثى لها وتمنوا لو أجّل زيارته أو ألغاها بعد أن كشفت استطلاعات الرأي عن وجود معارضة لزيارته وحروبه الدائمة وصلت إلى نسبة 58 في المئة.
المشكلة في طاقم بوش استمراره في زرع الأوهام في عقل الرئيس الأميركي وتصوير العالم الإسلامي أمامه وكأنه كتلة هلامية من البشر لا إحساس لديها ولا مشاعر وهي مجرد آذان صاغية للصوت الأميركي. فطاقم بوش العنصري المتطرف يزرع الأوهام ويظن بأن العالم الإسلامي يمكن إسقاط أسواره باستخدام مكبرات الصوت والإذاعات والمحطات الفضائية الموجهة فينهار ويتداعى كما حصل وتداعى الاتحاد السوفياتي وانهار المعسكر الاشتراكي.
هذه الأوهام يمكن ملاحظتها من خلال قراءة خطاب بوش في لندن الذي ألقاه أمام «نخبة» مختارة لا تعرف سوى التصفيق. فالخطاب يتحدث عن الحرية وفي الآن يهاجم الإعلام العربي (الصحف، الإذاعات، المحطات) ويتهمها بالتحريض ضد الاحتلال في طبعتيه الأميركية والإسرائيلية. ويتحدث الخطاب أيضا عن الديمقراطية ويضعها في خط مطابق للاحتلال، فمن يعارض الأخير (الاحتلال) يعارض الأولى (الديمقراطية) والعكس.
إنها معادلة مقلوبة تكشف عن رؤية مشوشة تسيطر عليها نزعة التسلط والتشفي في وقت لا يبدو أن العالم العربي يبادل الولايات المتحدة هذا النوع من العداء والكراهية.
المعادلة المقلوبة لم تعد سرا، فهي تكشف عن تراكم سياسات من الأخطاء أظهرت حتى الآن نتائج فاشلة وإدارة فاشلة ليس في قيادة العالم وإنما في قراءة ظروفه وتحولاته واختلافاته.
بوش فعلا ليس ويلسون والعالم الإسلامي ليس معسكرا سوفياتيا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 440 - الأربعاء 19 نوفمبر 2003م الموافق 24 رمضان 1424هـ