العدد 440 - الأربعاء 19 نوفمبر 2003م الموافق 24 رمضان 1424هـ

محمد شكري... يترجل تاركا خبزه للفقراء وأسطح الصفيح

ولد في جبال الريف المغربي في قرية بني شيكر العام 1935 وعاش لينتهي صراعه مع المرض الخبيث، وحيدا الا من سلحفاة عنيدة عاشت معه تتحدى كل شيء الا الموت

وما بين عام مولده حيث كان العالم يعيش ويلات ومؤشرات الحرب العالمية الثانية وصولا الى ما يعانيه العالم جراء الاحتلال الاميركي للعراق العام 2003 صعق صاحب «الخبز الحافي» من الموت البطيء الذي كان يصيب الناس: «أنا ملتزم اجتماعيا وأميل الى الدفاع عن الطبقات المهمشة والمنسية والمسحوقة، انا لست اسبارتاكوس، لكنني اعتقد ان الناس جميعا لديهم كرامة يلزم احترامها، على رغم عدم حصولهم على فرص في الحياة» وعن تخيله للموت، في أيامه الأخيرة قال «شكري»: «أنا عنيد، أنا من برج التيس، إذ تعلّم ان الذئب سيأكلك لا محالة، لكنك تنطحه، وجوه ليس توديعا للكتابة، فالكاتب لا يودع الكتابة حتى يودعوه قبره».

لم يكن «شكري» راضيا عن حياته، عن أهالي طنجة وحتى أطفالها، بما في ذلك الحكومة التي كان يرى أنها قد تكون اساس بلاء وضعية اجتماعية لا ترحم ما انتج حالات انسانية يصعب على «الرائي» ان يكون خاسرا او رابحا في نقل الصورة الحقيقية لما يحدث لأطفال الشوارع والارصفة والزقاق والبارات والنساء من الاجناس الاجتماعية كافة.

كان محمد شكري في «الخبز الحافي» و«الشطار» تحديدا يبحث عن ذاته الجمعية «الواحد في الجماعة والواحد للجميع» ليكتشف أن ما يعيشه المجتمع المغاربي لا ينفصم عن ما يعيشه المجتمع الشرقي أو الغربي من حيث ما يقبع في «الخلاء» أو بيوت الصفيح أو الشوارع والازمة الخلفية.

الرائي الداخلي في ضمير محمد شكري لم يعش طويلا مع مآسي الشارع المغربي او العربي فيصل الى حدود البحث عن قصص داخل قصصه المبتورة، او تلك المشاهد المؤلمة التي كان يصورها من واقع معاش، فيه الخوف والجوع والعطش والبؤس المتراكم نتيجة تحايل المجتمع السياسي على المجتمع المدني بحجة الاستعمار والتاريخ المقهور للاستقلال.

منذ العام 1966 بدأ محمد شكري رحلته في عالم الكتابة عندما نشرت مجلة الآداب احدى نصوصه القصصية التي جمعت في العام 1979 في «مجنون الورد» لكنه توقف عن الكتابة ما يزيد على 17 سنة، كان يرى فيها ان الحلم الاجتماعي المدني او القومية العربية بشموليتها حلم ثقيل على المجتمع والناس والاطفال.

كان محمد شكري يرفض الربط بين الايديولوجيا والادب ويترفع الحديث عن السياسة «باللغة المفهومة للعامة او للساسة المدعين على الناس أو النواب في اي برلمان مثلا كما كان يقول» فهو - أي شكري - كان يقول إن علاقاته مع كل الاحزاب السياسية جيدة، ويكتب في كل المجلات السياسية والحزبية باعتبارها نوافذ للكتابة من أجل التغيير وبناء المجتمع للأفضل وليست كمصادر للولاء الحزبي.

شكري وجد في طنجة، ذاكرة المدينة أو الإطار الذي يعترف أنها لم تجد بعد كاتبها القادر على نقل سحرها بالطريقة نفسها التي تم فيها نقل اساطير مدن اخرى.

الموت جاء في مدينة طنجة المغربية التي عاش فيها الروائي المعروف محمد شكري او «الشحرور الابيض» الذي لفت انظار النقاد والمهتمين بالأدب منذ اصداره روايته الإشكالية «الخبز الحافي» التي اثارت وقتها زوبعة من ردود الفعل لما تضمنته من جرأة عالية في كسر «التابوهات» والخروج على المحرمات التي ظلت خطا احمرَ عند العديد من الادباء العرب.

وسجل شكري في روايته تلك سيرة روائية ذاتية ،مؤسسا من خلالها لما يمكن ان يسمى «ادب الكشف العربي»، اذ لم يتوقف عند الشخصيات المحيطة به دارسا اياها ومسلطا الضوء على التناقضات الصارخة التي تعيشها ، بل تجاوز ذلك باتجاه الذات «ذاته هو» كاشفا عن النوازع التي تحركها والرغبات التي تمور في دخيلتها،متسللا في ذلك من خلال شخصية صبي صغير يختبر التحول العمري من مرحلة الطفولة الى مرحلة المراهقة في مجتمع القاع الذي تختلط فيه المحرمات بالمحللات ، فيبدأ باقتطافها دونما وازع سوى الرغبة بالتجربة والاختبار.

ويعتبر شكري بامتياز «روائي القاع» بنماذجه المهمشة والمقهورة والمتنازلة عن كل شيء في سبيل الحياة، مبتعدا في عن النماذج البرجوازية أو الارستقراطية، وقد يكون كارها لها في دخيلته، وربما نلمس ذلك من خلال رده على منع تدريس روايته «الخبز الحافي» في الجامعة الاميركية في القاهرة، إذ قال: «من الذين يدرسون في الجامعة الاميركية؟ طبعا ليسوا ابناء الحرافيش واولاد البراريك واولاد الدور الصغيرة، بل يدرس فيها اولاد البرجوازيين الاغنياء الذين يرسلون بعدها الى الدول الانجلوسكسونية لاتمام دراساتهم هناك»، إذ يشكل هذا الرد موقفا طبقيا اتخذه الكاتب تجاه الطبقات الغنية في المجتمع العربي المغربي، تبدّى في اسقاطه اياها من مشروعه الروائي، وتكريسه في جلّه لرصد حياة البسطاء والمهمشين والمقموعين، في «بانوراما» روائية ترصد معاناتهم.

وكان شكري الذي وصف بأنه مؤرخ المتاهة المغربية في طنجة الذي يحلم بقتل أسطورة «الخبز الحافي» قال في احدى حواراته الاشكالية: أنا لست ثوريا... أنا كاتب متمرد وملعون عاش في الشارع.

واعترف بأن «الخبز الحافي» انتقدت السلطة البطريركيّة وقدّمت نموذجا للطغيان الأبوي في المجتمع العربي.

واعتبر شكري أن سرّ نجاح رواية «الخبر الحافي» يكمن في أنها كتبت أصلا ضدّ الأدب. لو لم أكتبها لأصبت بالجنون أو لانتحرت.

وأضاف: كنت خارجا للتوّ من حياة صعبة. دعارة، تهريب ومخدرات. ثم الندوب التي خلفتها في نفسي التربية السيئة التي تلقيتها من والدي الذي كان يضربني أنا وإخوتي. «الخبز الحافي» كان علاجا لي. به استعدت توازني النفسي. لكن العديد من القراء لم يستسيغوا الأمر. لأن السيرة الذاتية بالنسبة إليهم يجب أن تكتب في نهاية حياة أدبية حافلة. فهي تتويج لمجد أدبي. أنا كتبت سيرتي الذاتية بلا مجد. وهو ما بدا للناس غريبا...

وعن الجنس في كتاباته قال صاحب روايات (الشطار) و(السوق الداخلي) و(وجوه) و(غواية الشحرور الأبيض) و(زمن الأخطاء) إن الجنس في كتاباتي ليس لإثارة الرغبات. أنا لا أملك مؤسسة للاثارة، هدفها مساعدة المصابين بالعجز الجنسي. أنا كاتب ملعون وإنسان هامشي عاش في الشارع، فهل يريدون مني أن أرسم لهم الفراشات؟ هذا غير معقول. لقد أفرطت شخصيا في المجون، وأسرفت في الاقبال على اللذة بكل أشكالها. لكن «حياة الانحراف» اذا جاز أن نستعمل هذه التسمية التي تعكس أحكاما معياريّة وأخلاقيّة، هي نتيجة خلل اجتماعي كبير يجب أن يُدان. ولا يكفي أن ندين الضحايا وحدهم.

وكشف شكري بأنه قام بطباعة (الخبز الحافي) على نفقته الخاصة، لأن أحدا لم يرد نشره. كنت اقترحته على سهيل إدريس في بيروت، لكنه لم يتحمس له. وجده كتابا مبتذلا وطلب مني أن أُفلسفه قليلا. لقد عاب عليّ أنني كتبت سيرة ذاتية فضائحية فيها نوع من الاستعراء. واليوم ها هو يكتب سيرته الذاتية هو الآخر، ويكتب عن السلطة الأبويّة بكثير من الجرأة والتعرية. عموما سهيل إدريس خذلني في ذلك الزمن. وأنا أعدّ ذلك جبنا وتخاذلا. لكنه لم يكن وحده. الكل تخلّى عني وكل الأبواب أغلقت في وجه سيرتي الذاتية. لهذا كنت مجبرا على نشر الأصل العربي لـ «الخبز الحافي» على نفقتي الخاصة من خلال العائدات التي كانت تدرها عليّ ترجمته الفرنسية التي صدرت عن الناشر والكاتب الفرنسي فرنسوا ماسبيرو. ومنذ ذلك الحين صرتُ ناشرَ كتبي بالعربية. إنني أفضّل اليوم إحراق كل كتبي على تسليمها لناشر عربي. لأن الناشرين عندنا ليسوا جبناء فقط، بل لصوص أيضا ومصّاصو دماء. أنا أعيش على عائدات كتبي منذ العام 1981.

ولو انني عوّلت على الناشرين العرب لمتّ من الجوع.

وعن كتابته سيرة طنجة وسيرة ليلها الأسطوري قال:

ليل طنجة القديم كان يعجبني أكثر. على رغم كل بذاءاته وبعض عنفه، كان جميلا. ليل طنجة اليوم فقد، صار ليل الإجرام والعنف المجاني، لافتا إلى أن الفرق بين هؤلاء وبيني أنهم يحنّون إلى طنجة الدولية. لا تعنيهم الأسطورة، بل يتباكون على زمن اللذة القديم، يبكون الذي كان يوفره الوضع الدولي للمدينة. طبعا أنا لا أحنّ كثيرا لتلك الفترة، لأنني آنذاك كنت أعيش في الضفة الأخرى... ضفة الحضيض الاجتماعي. أما طنجة الدولية بمباهجها وأفراحها وبذخها، فكان يتمتع بها الأغنياء والأجانب. كان بول بوولز مثلا يتمتع بطنجة. وكان يتمنى أن تستمر هذه الرفاهية القديمة، وتبقى كما عرفها في الثلاثينات والأربعينات. أما أنا، فبيني وبين طنجة علاقة حب قويّة. قد نفترق، لكن الطلاق بيننا غير وارد أبدا. لا أعتبر نفسي «كاتبا مغربيا»، أفضّل تصنيفي كـ «كاتب طنجاوي». أريد أن أبقى في الذاكرة بصفتي «كاتب التاريخ المتجول لهذه المدينة».

وعموما أنا لا أغادر طنجة إلا لماما. وحتى إذا سافرت فإنني أعود بعد بضعة أيام فقط. أحس أن طنجة هي بحري الذي لا أستطيع العوم خارجه





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً