انتج العلم السياسي الحديث تسميات متعدّدة للحروب. فهناك الحروب الشاملة، والحروب المحدودة، كذلك الامر هناك حروب التحرير. كانت الحربان العالميّتان، الاولى والثانية مثالين حيّين للحروب الشاملة. وكانت كل من الحرب الكوريّة - الفيتناميّة، وأخيرا وليس آخرا الحرب الاميركيّة على العراق مثالا آخر للحروب المحدودة. أما حروب التحرير وهي التي تعنينا هنا، فهناك منها الكثير الكثير. تندرج الحرب الجزائريّة ضد الفرنسيّين أهم مثال في العصر الحديث، وذلك نظرا لما كلّفت هذه الحرب الشعب الجزائري من ضحايا.
يُطلق عادة على حروب التحرير تسمية «حروب العصابات». وليس بالضرورة ان تنتهي هذه الحروب بتحقيق الاهداف للمقاومة وبناء الدولة. فالاكراد مثلا المتوزّعون بين كل من، إيران، العراق، تركيّا وسورية. وعلى رغم سعيهم الحثيث لبناء دولة خاصة بهم. لم يستطيعوا حتى الآن بناء هذه الدولة. فالقدر كان قد وضعهم على تقاطع مصالح دول اقليميّة اهم منهم بكثير، لذلك هم يدفعون الاثمان بصورة مستمرّة. وهم يرون الآن، وبعد الدخول الاميركي إلى العراق، وكأن الفرصة اصبحت سانحة لهم لرسم شكل دولتهم المستقبليّة. لكن التفاؤل في هذا المضمار قد يكون مبالغا فيه كثيرا.
كذلك الامر، لايزال الفلسطينيّون يتابعون حربهم ضد «إسرائيل» بهدف تحرير ارضهم وبناء دولتهم. وهم كانوا قد اعتمدوا انواع شتى من الحروب ضد «إسرائيل»، والتي تراوحت ما بين الحروب التقليديّة الاقليميّة، إذ كانت الدول العربية اللاعب الاساسي فيها. وحتى حروب المقاومة والاغارات على الارض المحتلّة. هذا عدا طبعا ما قامت به المقاومة الفلسطينيّة، من عمليات عسكريّة وخصوصا ضد المصالح الاسرائيليّة خارج الاراضي المحتلّة. فتكون بذلك قد وسّعت مسرح الصراع ليشمل كل العالم. كذلك الامر، لا يمكننا إغفال المقاومة الفلسطينيّة السلميّة للاحتلال، والتي تمثّلت بالانتفاضة الاولى.
ما أسس الحروب
التحريريّة (حرب العصابات)؟
تعتمد هذه الحرب على مبدأ اللاتماثل، فماذا عن هذا المفهوم؟
إن كل حرب هي في المبدأ حرب لا تماثليّة. فالقوى عادة هي غير متعادلة، ومتوازنة بين الافرقاء المتقاتلين. فلابد لفريق ما من الافرقاء المتقاتلة من ان يكون اقوى من الآخر في بُعد ما. تتميّز مثلا «إسرائيل» عن العرب، في انها تملك سلاحا جويّا متطوّرا جدّا جدّا. لكنها، تفتقر مثلا إلى العمق البشري الديموغرافي مقارنة مع العرب. كذلك الامر، تفتقد «إسرائيل» العمق الجغرافي، بينما يتميّز العرب في انهم يملكون هذا العمق. من هنا سعت «إسرائيل» إلى إخراج مصر من الصراع، فتكون بذلك قد قسّمت العالم العربي إلى قسمين جغرافيّين. كذلك الامر، كانت هي اوّل من شجع اميركا لغزو العراق، وذلك بهدف حرمان العرب من عمقهم الجغرافي الاستراتيجي الثاني، وهو الاهمّ.
ففي هكذا اوضاع، يسعى كل طرف إلى استغلال نقاط قوّته إلى حدّها الاقصى، مع التركيز على نقاط الضعف لدى العدو. من هنا تحاول «إسرائيل» جرّ العرب إلى حرب جويّة، لانها اقوى. بينما يسعى العرب إلى جرّها إلى حرب تماس مستمر، إذ هم اقوى وأجرأ. يندرج تحرير جنوب لبنان من قبل المقاومة اللبنانيّة، كمثال حيّ لقوّة العرب في البعد البشري، ولضعف «إسرائيل» في هذا المجال. ففي هذه الحرب، ركّز حزب الله على نقاط ضعف العدو، ومنعه من استغلال نقاط القوّة لديه، وخصوصا الجويّة.
يقول بروس بركويتز في كتابه «الوجه الجديد للحرب» عن مفهوم اللاتماثليّة (بما معناه) الامر الآتي: «كي يكون هناك لا تماثل مع العدو. يجب أن تختار نقاط الضعف لدى العدو، بشكل ألا يستطيع هذا العدو التعويض عن هذا الضعف مهما فعل. فتستمر هذه النقاط ماثلة كأهداف تضرب، ليشعر هذا العدو أنه ليس آمنا، وأن معطوبيّته هي ظاهرة ومكشوفة، ولا سبيل لإزالتها».
إذا؛ تقوم كل حروب التحرير على مبدأ اللاتماثل. فالمُحتل عادة هو الاقوى. أما المقاوم، فليس لديه سوى إرادته، ومن يرعاه من الدول، هذا إذا توفّرت. يخوض المقاوم حربه عندما يتوفّر الهدف. اما المحتلّ، فهو يخطّط لضربة واحدة قاتلة. يخطّط المُحتل حربه استنادا إلى ما يملك من قوّة. يردّ المقاوم بخطّة تتجنّب هذه القوّة. يربح المقاوم إذا استطاع الاستمرار، وتجنّب المعركة الفاصلة.
اما المُحتل، فإنه يخسر إذا لم يستطع الانتصار وبسرعة. يخوض المقاوم حربه على جبهتين، الاولى في ساحة التحرير ضد عدوّه. اما الثانية، فهو يقصد بها الساحة الداخليّة للعدو المحتل. فالمقاوم، ليس ملزما بتبرير حربه المقاومتيّة للعالم ولشعبه. اما المحتلّ، فهو ملزم يوميّا بتبرير وجوده على بعد آلاف الاميال عن وطنه الام. كما هو ملزم بتبرير عدم قدرته على الحسم السريع، وخصوصا انه يملك كل الوسائل اللازمة.
وكما هو ملزم بالتبرير لايزال الفلسطينيّون يتابعون حربهم ضد «إسرائيل» بهدف تحرير ارضهم وبناء دولتهم. سبب الخسائر في صفوفه. تعتبر الحرب بالنسبة إلى المقاوم، حرب وجود. لذلك ترخص فيها الاثمان، فيكون المجتمع وراء المقاومة نبعا ومصدرا لها. لا يحاسب المجتمع مقاومته، فكل شهيد، هو شهيد الوطن، يشق طريق الخلود لمن سيليه. أما المُحتل، فالحرب ليست حرب وجود بالنسبة إليه، وهو سيفقد العزم والارادة إذا ما وصل الثمن المدفوع إلى درجة لا يمكن تحمّلها. فهل يمكن لايّ جنديّ اميركيّ، ان يفسّر لولده عند عودته إلى اميركا عن سبب وجوده في العراق؟ طبعا كلاّ. بينما، يمكن لاي مقاوم في جنوب لبنان، أن يسرد بطولاته على اولاده واحفاده مع تبرير سبب الثمن المدفوع، حتى انه ليس ملزما بتبرير ذلك. يُعتبر المجتمع المقاوم كالماء بالنسبة إلى المقاومة، هذا إذا ما اعتبرنا المقاومة كالسمك.
ما آليّة سقوط مشروع
الاحتلال لأيّ محتلّ؟
يمرّ مشروع الاحتلال من قبل قوّة عظمى ما (غالبيتها ديمقراطيّة في العصر الحديث)، لبلد آخر بالمراحل الآتية:
- احتلال البلد من قبل قوّة عظمى، او من قبل دولة اقوى من البلد المحتلّ.
- تبدأ عمليات المقاومة إذا كان الشعب يريد ذلك، وإذا ما توفّرت القيادة التاريخيّة المناسبة.
تظهر حاجة المحتلّ إلى استقدام المزيد من القواّت.
- يزداد ويرتفع عدد القتلى لدى المُحتل. فيسعى هذا المحتل إلى تحقيق انتصارات عملانيّة وتكتيكية. فيضطّر عندها إلى استخدام اساليب قاسية مع الشعب. يميل الشعب كلّه تقريبا لصالح المقاومة، فيشعر المُحتل انه اصبح يعيش في محيط معاد اكثر فأكثر.
- يبدأ الضغط بالانتقال إلى الساحة السياسيّة الداخليّة للبلد المحتلّ. وتبدأ ملامح المعارضة للحرب بالظهور على الساحة الداخليّة.
- يبدأ التصعيد، والتصعيد المضاد بين الافرقاء. يزداد عدد القتلى، ويزداد الضغط الداخلي لدى المحتل. تتزايد المعارضة للحرب داخليّا. تتراجع المعنويّات لدى القوات المحتلّة.
- يبدأ المحتل بالسعي لايجاد مخرج لائق به من المستنقع الذي وضع نفسه فيه.
- مع الوقت تصبح هذه الحرب تتعارض كليا مع ما تمثّله الدولة المحتلّة، فتخرج محرجة.
بدأ المحللون العسكريون يكتبون عن ان العراق هو فيتنام ثانية. فهل تصح المقارنة؟
هناك طبعا اوجه شبه كثيرة بين ما يجري في العراق، وما حصل في فيتنام. لكنه هناك ايضا اوجه اختلاف. فماذا عن هذه الاوجه؟
- تختلف تركيبة النظام العالمي حاليا عما كانت عليه ابان الحرب الفيتنامية. ففي خلال الحرب الباردة، كانت اميركا تحوي الاتحاد السوفياتي. وكانت تقاتل على الحدود الصينية مع الزعيم ماو. وهي كانت قد جربت الزعيم ماو في الحرب الكورية عندما أنزل بها خسائر كبيرة فقط لانها اقتربت من الحدود الصينية. في العراق الآن، تهيمن اميركا على العالم بعد ان اصبحت الحرب الباردة في خبر كان، واصبحت الصين ضمن لعبة الاسواق المفتوحة.
- في الحرب الفيتناميّة، اعتقد الاميركيون ان الحرب في فيتنام هي من ضمن مخطط شيوعي كبير جدا يحاول ضرب المصالح الاميركية في العالم. تعزّز هذا الشعور عندما سقطت الصين في المخيم الشيوعي.
كذلك الامر، اعتقد الرئيس ايزنهاور ان سقوط فيتنام سيؤدي إلى سقوط كل الدول المجاورة فتضطر الولايات المتحدة إلى خوض حربها ضد الشيوعية على حدودها الغربية في لوس انجليس. في العراق الآن، تأتي الحرب وكأها تحت شعار ضرب الارهاب والذي يريد ضرب الحضارة الغربية.
في الحرب الفيتنامية، كذبت الادارة الاميركية على الشعب الاميركي في ان الحرب تسير حسب ما يرام. لكن هجوم تيت والذي قام به الثوار الفيتكونغ، إذ وصلوا إلى عمق الجنوب، فضح الامر وقرّب موعد الخروج الاميركي من فيتنام. كما اظهر هذا الهجوم المعطوبية الامنية الاميركية الكبرى. في العراق كذبت الادارة الاميركية بشأن سبب الحرب والمتعلق بأسلحة الدمار الشامل. وظهرت معطوبيتها ايضا من خلال العملية التي نفذت ضد فندق الرشيد إذ كان نائب وزير الدفاع وولفوويتز.
- تورّطت اميركا في فيتنام تدريجيا. فبعد الحرب العالمية الثانية راح الرئيس هاري ترومان يساعد الفرنسيين. بلغت ذروة التورط مع الرئيس ليندون جونسون عندما بلغ عدد الجنود الاميركيين هناك حوالي 500000 ألف جندي. في العراق تورطت اميركا اول مرة بـ 500000 ألف جندي. وفي المرة الثانية بحوالي 150000 الف.
- استهلكت الحرب الفيتنامية خمسة رؤساء اميركيين هم: ترومان، انزنهاور، كنيدي، جونسون ونكسون. استهلكت حرب العراق ثلاثة رؤساء اميركيين هم: بوش الاب، كلينتون عبر ولايتين متتاليتين، واخيرا بوش الابن.
- في فيتنام، بدأت اميركا في استغلال التكنولوجيا في آلتها العسكريّة، فكانت اول قنبلة ذكيّة. في العراق استعملت اميركا حوالي 90 في المئة من القنابل على انها ذكيّة. في العراق خاضت اميركا الحرب الاكثر حداثة في تاريخ الحروب.
- في فيتنام، قاتلت اميركا الثوار الفيتكونغ. كما وسعت عملياتها إلى عمق الشمال، وإلى البلدان المجاورة (للاوس وكمبوديا). في العراق، ضربت اميركا كل البلاد واحتلتها عبر عمليات جوية وبرية. كذلك الامر وسّعت تهديداتها إلى دول المحيط عبر رسائل سياسية وعسكرية.
- في فيتنام ركّز الزعيم هوشي منه على نقاط ضعف الاميركيين لا تماثليا كما ذكرنا اعلاه. واراد من ذلك نقل الصراع إلى الساحة الاميركية الداخلية. نجح في ذلك عبر امكانية الاستمرار وإنزال اكثر عدد ممكن من الضحايا الاميركية. تعلّمت المقاومة العراقية، وها هي تتبع الأسلوب نفسه.
- في فيتنام، كانت الحرب محدودة للاميركيين. اما لفيتنام الشمالية، فهي كانت حربا شاملة هدفها توحيد البلاد. كذلك الامر في العراق لكن مع فارق جوهري هو: تأتي الحرب على العراق بعد الاعتداء على اميركا في 11 سبتمبر/ ايلول. اميركا تتفرد حاليا بمصير العالم. وهي تخوض حربا شاملة على الارهاب، إذ تبدو الحرب في العراق وكأنها حملة من حرب اوسع بكثير.
- في فيتنام كان الراعي للمقاومة يتمثل في الاتحاد السوفياتي والصين. فهما كانتا تؤمنان باللوجستية وكل ما يلزم لاستنزاف اميركا. في العراق تفتقر المقاومة إلى راعي وإلى ملجأ، لكنها تملك لوجستية لا بأس بها.
- في فيتنام كانت المقاومة تقريبا شاملة، في العراق تقتصر المقاومة على منطقة جغرافية محدودة ومحصورة ضمن المثلث الوسطي.
- استعانت اميركا بهوشي منه قبل الحرب عليه ضد اليابانيين. استعانت ايضا بصدام لاحتواء الثورة الايرانية. عادت بعدها لتقاتل الاثنين.
- حاربت اميركا فيتنام، البلد المتمرس بحروب المقاومة عبر تاريخه. كذلك الامر لا يخلو التاريخ العراقي من البطولات. ثورة 1920 خير دليل على ذلك.
اعتقد الاميركيون ان فيتنام ستستقبلهم باعتبارهم محررين. كان لديهم الشعور نفسه في العراق. اخطأوا في البلدين، وحوربوا في البلدين.
- بعد التعثر في فيتنام، اراد الاميركيون «فتنمة» الحرب. بعد التعثر الاخير في العراق تحاول اميركا عرقنة الامن.
- في فيتنام كان لهوشي منه قائده العسكري المميز والفذّ. لا يبدو في العراق ان للمقاومة حتى الآن زعيما معلنا سوى الرئيس صدام حسين. ويقال انه هو من يقود المقاومة حاليا بواسطة ضباط مغمورين من الشباب كان هو قد اختارهم قبيل الحرب الاميركية عليه.
- وأخيرا وليس آخرا، تقود المقاومة حربها مستندة على مبدأ الاستنزاف العسكري (المقصود ضحايا بشريّة)، بهدف الوصول إلى تحقيق الاستنزاف للارادة السياسيّة للمحتلّ. فقد قال الرئيس جونسون مرّة لأحد معاونيه: «لقد تعبت من الاستيقاظ كل ليلة قلقا على ما يجري في فيتنام». وفعلا فقد عزف جونسون عن الترشّح لولاية ثانية بسبب ذلك.
في الختام، يُقال ان للقوى العظمى نعمة التعلم من الاخطاء واخذ الدروس والعبر. فهي قادرة على استيعاب الخسائر إلى حد ما. كذلك الامر، يقال انه ليس للدول الصغرى، حتى نعمة الابتهاج بنصرها. خرجت اميركا مهزومة من فيتنام، وها هي تسيطر على العالم. اما فيتنام المنتصرة، فها هي لاتزال تعيش في الظل وتحت خط الفقر. لكن الغريب في السلوك الاميركي. في ان اميركا تحاول ضرب المثل الذي يقول: «لا يُلدغ العاقل من جحر مرتين». فهي قد عادت إلى مسرح الجريمة المستمر تحت شعار «تحرير الشعوب من العبودية».
ويحضرني هنا ما قاله قائد عسكري فيتنامي، بعد دخوله إلى مركز قيادة اميركي عقب سقوط العاصمة سايغون، حين وجد فيه الكثير من الحواسيب فقال: «لاعجب في انهم لا يفكرون». لكن الوقت بالنسبة إلى العرب والعراقيين هو وقت تفكير، وتفكير عميق. وما نأمله هو ان تخرج اميركا ليتوحد العراق على غرار توحّد فيتنام. اللهم نجِّ العرب والعراقيين، ولو مع قليل من التفكير كما نصح رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد
العدد 438 - الإثنين 17 نوفمبر 2003م الموافق 22 رمضان 1424هـ