ما إن ثارت الزوبعة أخيرا بسبب مطربةٍ من الدرجة الثالثة، حتى «عادت حليمة إلى عادتها القديمة»، لتسلّ أقلامها الصدئة وتمارس هلوستها التحريضية القديمة على أشلاء الوطن. ألم يحن الوقت للإقلاع عن هذه العادة الذميمة؟
الصوت الأول دعا من دون مواربة إلى تشديد القبضة الأمنية وعودة القوانين الصارمة، وهو يحاول تلبيس ما حدث بعدا سياسيا بحتا بمعزل عن أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية المعقدة... في مغازلةٍ واضحةٍ لقانون «أمن الدولة»، عنوان العهد الذي لم يحزن على فراقه الأغلبون.
صوتٌ آخر تغنى فيه صاحبه أو صاحبته بالحجاج بن يوسف الثقفي، لا أدري هل هو انبهار بعرض المسلسل التلفزيوني الجديد أم قناعة بالنهج الدموي الذي كان الحجاج علما من أعلامه الخالدة عبر التاريخ! فصاحبتنا أخذت تغني بمعزوفة أن هناك رؤوسا قد أينعت وحان وقت قطافها، وهي المعزوفة الشنيعة التي بهرتنا بسحرها فحفظناها صغارا، ومهما حازت في ميدان الأدب من جلجلةٍ كأروع ما يكون النثر، إلا ان حصادها أقبح ما يكون عند القطاف، خصوصا وقد ألفينا هذا الإرث السياسي المقيت يحكم طرائقنا السياسية على امتداد الوطن العربي كله عبر القرون، وذقنا طعمه المر حتى تقطّعت منا الشفاه.
صوت ثالث... ورابع وخامس، تتردد كالعادة كلما أطلقت صرخةٌ أو علا صوتٌ نشاز. أصوات تتصيد في الماء الآسن، يجمعها اهتزاز الرؤية وعدمية الموقف وعبثيته. خيطٌ رفيعٌ يجمع هذه الرؤوس على غير حلال، ولكنه يكشف دخائلها المشوهة: ان الديمقراطية لا تساوي لديها خردلة، والحرية أرخص عندها من جناح البعوض. فإذا تحدث هؤلاء في فترة العامين الماضيين وأكثروا الثرثرة وأطالوا «الخطبة» عن الديمقراطية فعن غير إيمان، ولأنها «موضة العصر» و«عنوان المرحلة»، مختومة رسميا ومباركة، والحديث عنها لا يكلّف أكثر من 5 فلوس هي قيمة الحبر وقصاصة الورق فحسب. ولذلك سرعان ما تعيدهم صرخة نشاز إلى أصلهم ومربعهم الأول، أتباعا يعيشون في الظلام، يألفون المظالم ويرتعون في البركة الآسنة ويقضمون العلف في مزرعة حيوانات جورج أورويل.
هؤلاء العابثون لا يهمهم مستقبل البلد أو الاصلاح مهما أكثروا من التباكي على أطلال شارع المعارض أو «اشارة مرور الديه»، ولا يهمهم ما تؤول إليه الأوضاع، فالرزق مضمون و«الميرة» واصلة على الباب. لم يجوعوا ولم يعروا في فترة ما قبل الديمقراطية، ولم يعرفوا سبيل الجياع. والأهم ان الميرة واصلةٌ على كل حال، أطالوا الحديث عن الديمقراطية بالأمس أم غازلوا اليوم قانون أمن الدولة وعودة الكبت ورددوا أغنية «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا».
هؤلاء لم تتفصد من جباههم حبات العرق أيام «أمن الدولة» في طريق الشوك والتشرد والدمع السخين. لم يكن القلم بين أصابعهم أكثر من أداة لاستدرار «المكتوب» وضمان استمرار مؤونة الشتاء والصيف. ولذلك لم يخسروا شيئا أو يدفعوا شيئا من ضريبة الدعوة إلى التغيير. ولو دفعوا شيئا يسيرا من عمرهم أو من راحة عوائلهم أو أبنائهم لما عاد الحجاج عندهم نبيا من المرسلين.
ومن المؤسف أن يكتب هؤلاء مشرقين ومغربين، يوزعون «تحليلاتهم» التي لا تتغير مهما تغيرت الظروف، فعند كل منعطف أو مطب تمر بها البلد يرفعون عقيرتهم محذرين من «المؤامرات السرية»، و«الأيدي الخفية»، كأنهم مازالوا يعيشون في بئر مظلم، يكتبون و«يُنظِّرون» عن واقع وطن اخر، لا يعرف تعقيدات اجتماعية اسمها البطالة، أو مشاكل فساد مالي أو إداري الكل يتحدث عنها ولا يعرف السبيل إلى حلها، ويأتي هؤلاء للثرثرة عن قضايا واقع اخر.
ويأسف المرء أن يلتقي صحافيين من أقطار عربية شتى يكونون أكثر وعيا ومتابعة وعمق تحليل لأوضاع بلده من هؤلاء الذين لم يعودوا ينتجون حليبا ولا جبنا، غير هذه الكتابات المتسوسة التي تعلوها طبقات متراكمة من الصدأ والكلس و«البلاك».
وإذا كثر الحديث عن الأعمال المدانة التي أفضت إلى حرق إطارات وتكسير إشارة ضوئية عند تقاطع جدحفص - الديه، فإن هذه الفئة من حملة الأقلام الطائشة لا تقل خطيئة عن أولئك الشباب المتمرد، إن لم يكن عبثها أخطر، إذ تقوم بتدمير إشارات المرور الاجتماعية بإشاعة مثل هذه الرؤى المريضة المحرضة على عودة الوطن إلى الوراء. كأننا لم ندفع الضريبة غاليا في الماضي القريب... رؤوسا قطفت قبل وقت ايناعها، ودماء ما كان أحرى بها أن تبقى مترقرقة حفظا للإنسانية على هذه الأرض، وتسويرا لمستقبل الوطن
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 438 - الإثنين 17 نوفمبر 2003م الموافق 22 رمضان 1424هـ