العدد 438 - الإثنين 17 نوفمبر 2003م الموافق 22 رمضان 1424هـ

المشهد الإسباني

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ماذا يجري في العراق؟ سؤال تصعب الإجابة عن كل تفصيلاته. فالأمر كما يبدو ليس واضحا في هذه الفوضى الأمنية وتشتت مراكز القرار وتداخل القوى. فالاحتلال مثلا ليس موحدا في سياساته. والقوى السياسية التي انتدبها الاحتلال للحكم بصفة مؤقتة تبدو أيضا غير موحدة. كذلك المقاومة العراقية تبدو أيضا للمراقب مشتتة الأهداف. فبقايا النظام السابق تريد الاستفادة منها واستخدام المقاومة مطية لعودة صدام إلى الحكم، بينما واقع العراق تجاوز تلك الصيغة الاستبدادية ولم يعد في وضع يسمح بعودة عقارب الزمن إلى الوراء.

الأمور موزعة وليست واضحة. فلا الاحتلال يملك اليقين ولا المقاومة واضحة في أهدافها الخاصة ولا «مجلس الحكم الانتقالي» يمتلك اللاحية أو الإرادة لتمييز نفسه عن سلطة الحاكم الإداري المدني بول بريمر.

انها فوضى وكل فريق يدّعي انه يملك القدرات والبدائل، بينما الوقائع تشير الى وجود مرجعيات سياسية لم تتفق على صيغة نهائية لدولة العراق في حال هزم الاحتلال (الأميركي) وقرر الانسحاب فجأة كما فعل مرارا في الكثير من التجارب المشابهة من فيتنام في السبعينات إلى لبنان في الثمانينات إلى الصومال في التسعينات.

التجارب السابقة يمكن أن تساعد على التفكير في مستقبل العراق في حال قررت واشنطن مغادرة بلاد الرافدين في وقت يناسبها أو على الأقل يناسب موعد الانتخابات الرئاسية التي ستعقد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2004.

الإدارة الأميركية في وضع صعب داخليا والمنافسة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري اشتدت واستطلاعات الرأي ترجح فوز المنافس التقليدي في حال استمر وضع الرئيس جورج بوش يتأرجح بين هجوم دولي لم يحقق نتائجه السياسية المرجوة وانكفاء داخلي يضغط اقتصاديا على حزب يتخبط بين تيارات عنصرية متطرفة (المحافظون الجدد) واتجاهات تريد إعادة التوازن إلى برنامج يكسب الطبقة الوسطى التي اخذت تميل مجددا الى اطروحات الحزب الديمقراطي.

هذا التأرجح يفسر إلى حد كبير التخبط السياسي اليومي الذي بدأت تظهر تعارضاته من خلال تصريحات المسئولين في إدارة البيت الأبيض. وتنعكس سلبا على التكتيكات التي تلجأ اليها واشنطن في قراءة مصالحها وترميم ما دمرته حروبها من جسور تقليدية بينها وبين الكثير من دول العالم وتحديدا أوروبا وروسيا والصين.

حتى الآن لايزال العراق هو أساس ذاك التوتر ومصدر الافتراق ما بين الاستراتيجية الأميركية الخاصة والاستراتيجية الدولية الممثلة في قرارات عامة صدرت تباعا عن مجلس الأمن ولها صلة بتوازن المصالح ومستقبل علاقات الدول الكبرى ببعضها بعضا.

العراق هو عنوان التوتر والاتفاق عليه بين الدول الكبرى يفتح الطريق أمام سلسلة مساومات يمكن سحب شروطها وبنودها على قضايا أخرى حامية في «الشرق الأوسط» وجنوب شرق آسيا وبعض بلدان افريقيا. وما يحصل في العراق هو جزء من ذاك التوازن الذي احدثت فيه الإدارة الأميركية الحالية سلسلة فجوات سمحت لكل القوى المتضررة من سياسة الهجوم التي قادتها «البنتاغون» للنفاذ منها لتسديد ضربات لا تعرف الجهة الفاعلة لها وحقيقة أهدافها.

المشكلة إذن ليست عراقية وانما العراق اختير في لحظة تاريخية مفارقة ساحة للصراع الدولي وحقل اختبار لموازين القوى يكشف فيه كل فريق عن قدراته ومدى تأثيره على الاستقرار سلبا وإيجابا.

وما حصل في العراق ليس نموذجا جديدا في السياسات الدولية. فدائما الدول الكبرى حين تمر في لحظات تاريخية مفارقة تختار ساحة للاختبار. مثلا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية اختارت الدول الكبرى اسبانيا فشهدت سلسلة حروب صغيرة تداخلت فيها كل الأصناف والأطياف ودفعت واندفعت اليها كل القوى المتنافسة (والمتخاصمة) آنذاك لتختبر قواها ودورها فتحولت بلاد الاندلس الى ساحة صراع للوافدين والقاطنين (حرب عالمية مصغرة) واختلطت فيها المشاعر الدينية بالقضايا الأهلية وبالسياسات الأممية وانتهت الحرب الممتدة بعد أربع سنوات من الدم إلى انتصار ملتبس للجنرال فرانكو. وبعد اسبانيا كانت كل أدوات ومعدات وعدة الحرب العالمية الثانية جاهزة للانفجار.

ما يحصل في العراق هو صورة مصغرة عن ذاك المشهد الاسباني عشية الحرب العالمية الثانية التي انفجرت في العام 1939. الا ان الفارق بين المشهدين هو ان العراق قد يكون خاتمة استراتيجية هددت بقيام الحرب العالمية الثالثة وفق أسلوب جديد وهو تنقل المعارك وتداولها من دولة إلى دولة وليس بين الدول كلها دفعة واحدة وفي وقت واحد.

سؤال «ماذا يجري في العراق؟» يذكر كثيرا بالمشهد الاسباني مع فارق في الظروف المكانية والزمانية التي تبدو لنا وكأنها بداية حرب عالمية ثالثة ولكنها ليست كذلك لأن العالم منذ نهاية تلك الحرب تغير. وهذا ما أدركته أوروبا ولم يفهمه بوش... وحتى اقتراب تلك اللحظة لابد من الانتظار

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 438 - الإثنين 17 نوفمبر 2003م الموافق 22 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً