العدد 436 - السبت 15 نوفمبر 2003م الموافق 20 رمضان 1424هـ

قراءات نقدية للعهد الخاتمي

خطاب هز المرتكزات الاجتماعية والسياسية لشكل الدولة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مثّل فوز السيد محمد خاتمي في انتخابات 23 مايو/أيار 1997 رجوعا قويا إلى ما يُعرَف باليسار الديني الراديكالي إلى السلطة وبمعيته تيارٌ عريض من التشكيلات الحزبية ذات السّمة التكنوقراطية التي بدأت تتشكل وتظهر إبان حكم الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني (15 يوليو/تموز 1989 - 02 أغسطس/آب 1997).

وكان ذلك الرجوع لليساريين الدينيين وكتل من يمين الوسط الصناعي (أو مجموعة الـ 16) المُتشكل توا من عشرة وزراء سابقين وأربعة من معاوني الرئيس السابق والمعروف باسم «كوادر البناء» أعاد رسم خريطة مراكز القوى السياسية ودور طبقة الإنتلجنسيا في مؤسسات الدولة الإجرائية والتقنينية ومؤسسات المجتمع المدني، كما أن اليسار الدينـي الراديكالـي الذي كان مُختَزَلا في جمعية علماء الدين المناضلين (روحانيون مبارز) وقبل رجوعه إلى مراكز صنع القرار أصابته عدوى الانشطار الانتمائي وغربلة عمودية في الولاءات الداخلية بين مريديه، وتمططت تشكيلاته التنظيمية فشرقت طائفة وغربت أخرى نحو مناهج فكرية وفقهية وسياسية جديدة مغايرة تماما لما كانت تنادي به من شعارات طوال الثمانينات إبّان حكومة مير حسين الموسوي من تطبيق المركزية الإدارية والاقتصادية وتحديد قيمة العملة وانتهاج التصادم الدبلوماسي والسياسي في العلاقات الخارجية (على رغم احتفاظ بعض من رموزه الأصليين بذلك) وهي الشعارات التي جعلتها تخرج مترهلة كسيحة في الانتخابات التشريعية الرابعة العام 1992 بعد أن ملّ الناخب الإيراني منها في ظل تصاعد شعارات البناء والإعمار والتنمية الاقتصادية التي رفعها الشيخ رفسنجاني بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية 1988، كما أنها بدأت في تجسير تحالفاتها مع الكثير من التيارات الفاعلة الأخرى.

وكان الفـوز الكاسح الذي حققـه الرئيس خاتمي في انتخابات الرئـاسـة السابعـة 1997 ( 83,49 في المئة) والثامنة 2001 (78,3 في المئة) نتيجة طبيعية للشعارات الدوغماجية، التي حملته كالبرق للفـوز على منافسيه، وخصوصا أن خاتمي أدرك جيدا أن المجتمع الإيراني ذو فُتوَّة عمريّة تقارب الـ 70 في المئة، لذلك فإن من يستطيع استمالة تلك الشريحة الواسعة سيتسيَّد صناديق الاقتراع في كل الولايات (28 ولاية).

كان السيد خاتمي وهو رجل أردكاني يزدي حوزوي، اجترار طبيعي لأبيه الذي كان فقيها وإماما لجمعة يزد في ثمانينات القرن الماضي إلاّ أن الابن امتهن الثقافة حتى النخاع منذ أن أرسله الشهيد بهشتي إلى هامبورغ بألمانيا لإدارة المركز الإسلامي فيها قبل انتصار الثورة الإسلامية، ثم بعد ذلك رئيسا لتحرير صحيفة «كيهان» في مطلع الثورة وتولى مسئولية وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي منذ العام 1982 حتى 1992.

وعندما تربّع خاتمي على كرسي الرئاسة في القصر الواقع في نهاية شارع فلسطين كانت ملفات إيران الجمهورية الإسلامية مهولة أمام يديه وخصوصا الملفات الاقتصادية التي نُفِض عنها الغبار فبدأت حِراكا ديناميكيا نَشِطا في خطتين خمسيتين إبّان الحقبة الرفسنجانية، كما وجد نفسه في معركة مباشرة صدرا لصدر مع تيارات ونخب سياسية وثقافية ولوبيات ضغط وطبقات اجتماعية جرّها صوب مماحكات استنزافية لم تربح منها إيران مكاسب تذكر بل ساهمت في إذكاء الاحتقان السياسي بين الفرقاء فانتعشت رايات الآخرين على أرض إيران.

وعليه فإننا يمكن أن نتوقف أمام خطوتين محوريتين ميّزتا العهد الخاتمي طوال السنوات الست الماضية :

(أولا) عندما شرع الرئيس خاتمي في تشكيل فريقه الإجرائي المُكوّن من 17 وزيرا جُلّهم من غير المخضرمين (خمسة منهم جُدُد فقط ) وقع في إشكال إداري بتوزيره عطاء الله مهاجراني وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، فمهاجراني على رغم ما يمتاز به من منزلة علمية وثقافية راقية (دكتوراه في التاريخ) فإنه لم يُحسن إدارة الملف الثقافي في إيران بما كان ينبغي، على رغم أنه محسوب عمليا على يمين الوسط ومن المقربين للشيخ رفسنجاني، إلاّ أن في عهده بدأت الصحافة المنعوتة (بالإصلاحية) في الجنوح نحو مناح خطيرة ذات تماس مـع خطوط عرفية وقدسية في المجتمع الإيراني عموما والحوزوي خصوصا، وبدأت في التأسيس لمناخات مشحونة بسياسة التسقيط لرجال الدولة وبالرموز السياسية والدينية، والتعرض للمرتكزات الأصلية للدولة الدينية كالتشكيك في ولاية الفقيه وقانونية بعض المواد الدستورية، وبدأت تلعب أدوارا فوضوية في لعبة الاستحقاقات الحزبية وتشجيع الانتقام البيني للأجنحة والتيارات، بل لعبت أيضا الدور نفسه الذي لعبته بعض الصحافة إبّان عهد الشاه عندما زجّت نفسها في مهاترات وصراعات عقائدية وفقهية مع رجال الحوزة العلمية، وهو ما يعتبر أمرا خطيرا في مجتمع تسوده المحافظة الدينية.

فقبل عامين أو أقل قامت إحدى الصحف المتدثرة بعباءة الإصلاح بنشر رسم كاريكاتوري صوّرت فيه منظّر التيار المحافظ وعضو مجلس الخبراء وأحد فقهاء حوزة قم المقدسة آية الله محمد تقي مصباح يزدي على شكل «تنين» تخرج النار من فمه الأمر الذي دفع بطلبة العلوم الدينية إلى التظاهر والاعتصام وإيقاف دروسهم الدينية احتجاجا، ولم ينته ذلك الاعتصام إلاّ بعد أن طلب منهم المرشد (وبدا محرَجا أمام المؤسسة الدينية) ذلك، كما نشرت صحيفة «موج» الطلابية نصا مسرحيا أشارت فيه بتهكم للإمام المهدي (ع) وهو حدث في غاية الدلالة ومدعاة للتأمل بأناة.

وبعد ذلك نشرت صحيفة «نشاط» التي كان يرأس تحريرها ما شاء الله شمس الواعظين مقالات متتالية دعت فيها إلى إلغاء عقوبة الإعدام والقصاص من الفقه الاسلامي لأنه يتنافى وحقوق الإنسان وهو ما اعتبرته المرجعية الدينية مساسا بقدسية النصوص، أو كما حصل لصحيفة «حيات نو» عندما نشرت كاريكاتورا يُصوِّر أحد رجال الدين في إحدى المحاكم الأميركية وهو يُسحق بإبهام (مُكبّر) الرئيس الأميركي السابق فرانكلين روزفلت وكان الرجل المسحوق في الكاريكاتور قريب الشبه لوجه الإمام الخميني، والغريب أن نشر ذلك الكاريكاتور (على رُغمَ أنه نُشِرَ أصلا في العام 1963م) صادف ذكرى نشر إحدى الصحف الإيرانية في العهد البهلوي مقالا أتُهِم فيه الإمام الخميني بالخائن وهو ما فجر الشارع الديني ضد السلطة آنذاك.

كما قامت الصحافة المحسوبة على تيار الرئيس بنعت رجال دين كبار في الحوزة العلمية وفي التيار المحافظ بأصحاب الفكر الطالباني أو بالتحجّر ومعاداة المدنية ودولة المؤسسات والتطور المجتمعي على رغم أن الكثير منهم أعضاء في مجلس خبراء القيادة ومجلس صيانة الدستور وقضاة في السلطة القضائية.

كما أطلقت وزارة الثقافة والإرشاد (المهاجرانية) العِنان للصحافة «اللامسئولة» لأن تتمادى في الاتهام والتجريح الشخصي لأفراد في المجتمع السياسي والديني والثقافي لهم صفة اعتبارية الأمر الذي دفع السلطة القضائية لأن تتعامل (بموفوراتها القانونية) مع الصحافة بغلظة في ظل تراخي قبضة مهاجراني على خريطة الحدث الثقافي وما يُطرح في الإعلام المكتوب الذي بات في نظر قادة الثورة الأوائل تماديا خطيرا في المنظومة الثقافية المتعددة المشارب بعد أن وصلت الأمور إلى حد المنادات بأطروحات ضد أصل مشروعية الدولة الإيرانية (الدينية) وهو ما فُسِّر من قِبَل القيادة العليا بأنه تهديدٌ مباشر للكيان السياسي للدولة بمبادئه الفلسفية، وبالتالي فإنها تعتقد أن أي إجراء تتخذه ضد «تلك التصرفات» هو نابع من أن الدولة يجب أن تكون أمينة على حماية أصل نظامها ولا يمكنها أن تكون حيادية أمام اسلاميته وإطاره المعرفي والأيديولوجي، وهو حال جميع الدول بلا استثناء، فالولايات المتحدة الأميركية قامت بحل الحزب الشيوعي الأميركي مطلع السبعينات بعد أن بات يُشكل بديلا سياسيا نشِطا لنظامها الرأسمالي البرغماتي وتهديدا مباشرا لايديولوجيته.

وأمام تلك الاستفزازات التي مارستها الصحف الإصلاحية وبغَضّ وتساهل من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي (المهاجرانية) بدأت الأجواء في التعكر والانشداد الأمر الذي دفع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله السيد علي الخامنئي إلى أن يتدخل (ووفقا لصلاحياته الدستورية) طالبا من البرلمان عدم مناقشة قانون الصحافة المُقر من قِبَل المجلس التشريعي الخامس وقوله إن أي تعديل في قانـون الصحافة «ليس في مصلحة نظام الحكم» ويجب ألا تقع الصحافة في أيدي «أعداء الإسلام والثورة» على رغم أن مناخ الحرية المتاح في إيران يستوعب الكثير من النقد والأطروحات المغايرة كأطروحات عبدالكريم سروش ومجتهد شبستري وقطاعات واسعة من المؤسسة الدينية والاجتماعية .

(ثانيا) وجد الرئيس خاتمي في خصومه المحافظين شَمّاعة يضع عليها إخفاقه في تحقيق وعوده الانتخابية (الأفلاطونية) فكلما وقع إخفاق في جنبة ما أشار (أو أُشير) إليهم باعتبارهم خصوم المجتمع المدني الذين يقفون حائلا بينه وبين تحقيق ذلك، وانه مغلول اليد بسبب قلة صلاحياته بوصفه رئيس جمهورية، وقد صرّح في سنوات ولايته الأولى في أحد المؤتمرات في طهران بأن «الرئيس لا يستطيع وقف انتهاك الدستور ولا العمل على تطبيقه» وأضـاف ما مــُؤدّاه «أن سلطاته الرئاسية محدودة جدا، وأنه بعد مرور ثلاث سنوات ونصف السنة على تقلده الرئاسة بات يُدرِك الآن أن رئيس الدولة لا يملك الصلاحيات الكافية لإنجاز عمله كما ينبغي» ودعا إلى إزالة الغموض في النصوص لكي يستطيع الرئيس القيام بمهماته وفق صلاحيات كاملة وقانونية.

وقد شكل ذلك انفصاما خطيرا في المفاهيم الدستورية في الدولة الإيرانية وخصوصا بعد أن شمل ذلك الاتهام السلطة القضائية و«مجلس صيانة الدستور» وإلى حد ما «مجمع تشخيص مصلحة النظام» وقوات التعبئة والحرس الثوري وكلها جهات ركنية في النظام.

وفي مسح استطلاعي محدود أجراه أحد مستطلعي الرأي العرب خلال زيارته إيران قبل ثلاثة أشهر أظهر أن الكثير من عقلاء القوم باتوا يؤكدون غير مرّة أن ذلك الخطاب الخاتمي في تجريم الكتل المحافظة وبمعيتها مؤسسات مهمّة في النظام قسم الناس إلى سماطين كلاهما فَقَدَ الثقة في أداء وشعارات النظام الإسلامي، كما أفقد الأخير الكثير من الصدقية من لحمه الحي، الأمر الذي ترك حيزا خطيرا يُمكن أن تتفاعل فيه الكثير من الأرقام غير الوطنية.

وفي قراءة سياسية ودستورية لذلك الواقع والخطاب يمكن تسجيل الآتي:

(1) ان خطاب الرئيس خاتمي يعتبر هَزّا لمرتكزات النظام الاجتماعي والسياسي لشكل الدولة، وعدم تقدير للدعم المُتواصِل الذي أعطاه ويعطيه إياها المُرشد الأعلى الذي كان (ومن قبله الإمام الخميني) يتنازل عن الكثير من تلك الصلاحيات المُحددة في المادة 110 لمسئولين تنفيذيين، فقد أعطى الإمام الخميني صلاحية إدارة الحرب إلى بني صدر، وعيّنه نائبا للقائد العام للقوات المُسلحة، ومن بعده إلى هاشمي رفسنجاني، كما أعطى المرشد الحالي آية الله الخامنئي عشر صلاحيات في الأمن الداخلي لوزير الداخلية السابق محمد علي بشارتي في العام 1993، وهو مُوكِلٌ الآن صلاحيات قيادة القيادات العليا لقوى الأمن الداخلي التي هي من صلاحياته لوزير الداخلية الحالي عبد الواحد موسوي لاري، كما أنه فَوّض البرلمان قبل عام ونصف العام مراقبة مختلف أجهزة النظام ومؤسساته بما فيها تلك التابعة اليه نفسه.

(2) كما أن الموقع البارز للرئيس وجهاز الدولة الجمهوري في إيران لم يكن يوما من الأيام قاصر الصلاحيات، وخصوصا أن ذلك المنصب دُعِّمَ مرتين، مرة في التعديل الدستوري الذي جرى في 8/7/1989 بأمر من الإمام الخميني الراحل، ومرة أخرى بعد وفاته عندما ألغِيَ منصب رئيس الوزراء وَوُحِدَ العمل التنفيذي في شخص رئيس الجمهورية.

(3) ان الدستور الإيراني أفرد ثلاثين مادة من الفصل التاسع تخص جهاز رئاسة الجمهورية، وان الرئيس بما هو رئيس للجمهورية هو المسئول التنفيذي الأول في المجلس الأعلى للأمن القومي أعلى سلطة أمنية ودفاعية في إيران طبقا للمادة 176 من الدستور، كما أن رؤساء إيران الخمسة السابقين (بازركان، بني صدر، رجائي، الخامنئي، رفسنجاني) لم يشكوا من نقص في صلاحياتهم الرئاسية.

(4) مثّل التشريع الدستوري للمجالس المحلية (200 ألف ممثل محلي) نقلة نوعية في العمل التنفيذي والإداري، وهي المجالس التي تتوزع على محافظات إيران وتعمل على تحقيق اللامركزية متيحة إمكانات جديدة للمؤسسات الإقليمية للإسراع في تنفيذ البرامج الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والصحية والثقافية والتعليمية والرقابة على شئون الأرياف والنواحي والمدن والأحياء.

وهنا وقبل أن أضع نقطة النهاية للحديث يجب أن أتساءل: هل ما قلناه يمكن أن يقرأه المعنيون في إيران من الإصلاحيين كما هو من دون أية رتوش أو ضغوط من الايديولوجيا؟

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 436 - السبت 15 نوفمبر 2003م الموافق 20 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً