هناك ما يشبه الاجماع على وجود نوع من التخبط الأميركي في إدارة السياسات الدولية. فالبيت الأبيض كما يظهر من صورة التصريحات اليومية يديره أكثر من رأس. وكل يوم تطلق آراء متناقضة وغير متوافقة بالضرورة مع اليوم السابق.
كيف يمكن ملاحظة المأزق الأميركية من خلال علامات التخبط؟ هناك صعوبة حتى الآن في التقاط مفارقة كبرى تؤكد وجود تغييرات جوهرية إلا أنه يمكن ملاحظة بعض تلك المؤشرات على الهجوم في مكان والتراجع في آخر من خلال رصد سلسلة خطوات اتخذت في الأسابيع الأخيرة. ويمكن اجمالها في المحاور الآتية:
أولا، العراق. استدعاء الحاكم المدني بول بريمر ودراسة استراتيجية جديدة للولايات المتحدة تشمل مجلس الحكم الانتقالي، التراجع عن بعض القرارات السابقة، تشكيل حكومة موسعة وجديدة، تحصين الأمن الداخلية بقوات محلية، الإشارة إلى إعادة تشكيل مجلس حكم يعتمد على فكرة التمثيل المتساوي لكل المحافظات (مندوبان عن كل محافظة)، توسيع رقعة التمثيل السياسي ليضم بعض الفئات المهمشة، التفاوض مع مناطق المقاومة والضغط عليها في الآن بشن هجمات استباقية ليلية تحت عنوان «المطرقة الحديد».
ثانيا، إيران. رفض واشنطن القبول بكل ما ذكره تقرير وكالة الطاقة الدولية بشأن المشروع النووي، الضغط على الاتحاد الأوروبي لتغيير موقفه التفاوضي مع إيران، الإسراع في تشكيل لجنة رصد ترفع تقريرها إلى مجلس الأمن بذريعة عدم تجاوب طهران مع شروط وكالة الطاقة، تحريك الملف الداخلي (انتقاد علماء الدين المتشددين والعودة إلى ملف حقوق الإنسان)، محاولة الضغط على موسكو باستخدام الملف الاقتصادي (اقصاء المليارديريين اليهود عن مؤسسات الانتاج) مقابل وقف روسيا دعمها للمشروع النووي (انتاج الطاقة السلمي) في بوشهر.
ثالثا، سورية. الإسراع في إقرار مشروع قانون محاسبة سورية في مجلس الشيوخ الأميركي، تعطيل صفقة تبادل الأسرى مع حزب الله، التهديد باتخاذ قرارات ضد دمشق (دبلوماسية، اقتصادية، حجز ودائع... إلخ)، تكرار التهديد بهجمات جديدة على مواقع داخل سورية، إجراء مناورات عسكرية على الحدود الدولية واتهام لبنان بانه يصدر الارهاب وبتدريب عناصر «القاعدة» في مراكز تابعة لحزب الله، وترك حرية الخيار للرئيس بتحديد الموعد المناسب ضد دمشق.
رابعا، فلسطين. مواصلة دعم شارون ورصد موازنة تتجاوز المليارين لدعم برنامجه العسكري، السكوت على تعطيل تل أبيب مشروع «خريطة الطريق»، تجاهل استمرار حكومة شارون في بناء جدار «الفصل العنصري»، تحميل ياسر عرفات مسئولية التدهور الأمني وتعطيل خطوات التفاوض مع حكومته الجديدة في حال رفض أحمد قريع محاربة ما يسمى «الارهاب الفلسطيني».
خامسا، دول الخليج العربية. توسيع جبهة الخصوم من خلال طرح فكرة «الديمقراطية» وإلا الخراب والدمار، إشارات متكررة عن القلق الأمني في السعودية متزامنة مع اتهامات مبطنة إلى دورها في حماية التطرف (التشدد الديني) والايحاء بأنها مصنع تفريخ للارهاب، والاعلان عن دعم أميركي في الآن نفسه للرياض في مواجهة شبكات الارهاب... إلخ.
والخلاصة: هناك تخبط في السياسة الأميركية. والتخبط مسألة خطيرة لأنها تشير إلى وجود لغة غير عاقلة تملي بعض الشروط وتتخذ خطوات مترددة وغير مضمونة النتائج. وهذا يدل على وجود مأزق من دون أن يعني الأمر أن الولايات المتحدة قررت تغيير استراتيجيتها التي تورطت بها بعد ضربة 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
وملاحظة علامات التخبط يمكن الإشارة إليها من خلال العناوين المختلفة. ففي العراق هناك بداية تراجع إجمالا وقياسا بالخطوط العامة التي طرحتها واشنطن في مارس/ آذار الماضي. ومع إيران هناك ما يشبه بداية استعداد للهجوم السياسي يتزامن مع كلام عن احتمال ارسال 130 ألفا من قوات المارينز في مطلع السنة الميلادية المقبلة. ومع سورية هناك بداية تصعيد يتضمن سلسلة تصريحات عشوائية تغذيها سياسة إسرائيلية تريد الانتقام من موقع دمشق ودورها في الملفات العراقية والفلسطينية واللبنانية. وبالنسبة إلى دول الخليج وتحديدا السعودية هناك ما يشبه الضغوط المتواصلة نفسيا وأمنيا على رغم الكلام المعلن عن استمرار دعم واشنطن للرياض وموقعها ودورها.
إنه نوع من التخبط. والتخبط عموما لا عقل له. إنه في النهاية ردود فعل طائشة تعبر عن مأزق لا يدرك المسئول عنه أسبابه الفعلية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 436 - السبت 15 نوفمبر 2003م الموافق 20 رمضان 1424هـ