العدد 436 - السبت 15 نوفمبر 2003م الموافق 20 رمضان 1424هـ

التحدي الثقافي وسبل المواجهة

القطيف - زكريا داوود 

تحديث: 12 مايو 2017

كل مجتمع وكل أمة لها روح تعبر عنها السلوكيات والتفكير العام، وقد تكون هذه الروح وثابة تدعو إلى التقدم والرقي، وقد تكون العكس إذ تساق بالأمة والمجتمع إلى متاهات التخلف والجهل. والأمة التي تسعى لإثبات مكانتها في زمن المواجهة لابد أن تكون لها روح قادرة على رفد الأمة والمجتمع بعوامل القوة والنشاط والحيوية. والثقافة هي المرآة التي تنعكس عليها هذه الروح فتغدو محركا قويا نحو التقدم والمواجهة الإيجابية التي تبني أكثر من سعيها للهدم، وهكذا تكون الثقافة الإسلامية، إنها في كل مفرداتها ومفاهيمها تسعى نحو التطور والتقدم والرقي بالمسلم عقلا وفعلا وإنتاجا. فقيمة الإنسان فيما يحسن. ولكن كيف يمكن للثقافة أن تكون أداة بناء في زمن المواجهة مع الآخر، وكيف يمكن للأمة أن تواجه التحديات الثقافية التي تتعرض لها، وما سبيل ذلك؟

لمواجهة هذه التحديات لابد من الاهتمام بالأمور الآتية:

التأسيس والتأصيل لفقه المتغير الثقافي، التأصيل لثوابت الثقافة، كالوحدة والحرية والكرامة... الاهتمام بصحة تطبيقات المتغير على الثابت، ترسيخ الاهتمام بالفكر الاستراتيجي.

وبقدر ما يكون التغير سنة من السنن الكونية التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الحياة، فإننا أحوج ما نكون إلى فهم مسارات التغير وأسبابه وعوامله وتأثيراته وانعكاساته على حياة الإنسان بشكل أخص. وبما أن التغير الثقافي في عصرنا غدا يسير بسرعة الضوء، فإن الثوابت الثقافية هي السبيل الوحيد التي تجعلنا قادرين على فهم التغير ومتابعة مساراته وتحديد آثاره وانعكاساته، لأن سرعة التغير تحدث في العقيلة الاجتماعية ردة فعل ذات اتجاهين، الاتجاه الأول يتمسك بكل ما هو قديم ويسعى إلى إضفاء صفة القداسة عليه مع اطراد الزمن وتقادمه. والاتجاه الثاني يسعى إلى سلب الأشياء قيمها وأهميتها، فهي مهمة مادامت تؤدي فائدة مادية مباشرة أو غير مباشرة، وسبب ذلك هو الحركة المستمرة والسريعة وقصر علاقة الإنسان بما حوله من البشر وما هو مادي، بل حتى في الجوانب اللغوية فإننا نندفع كما يقول آلفين توفلر في كتابه «صدمة المستقبل» نحو اللاثبات: إذ أن صلة الإنسان بالتصورات الرمزية تتجه باطراد نحو التقصير واللاثبات... إننا نتحرك في إطار مجتمع يتصف بدرجة عالية من الزوالية، فإننا مضطرون إلى اختزال هذه الروابط كما نحن مضطرون إلى اختزال علاقاتنا بالأشياء والأمكنة والنظم الاجتماعية ونحن مضطرون أيضا إلى تغيير مفاهيمنا عن الحقيقة وصورنا الذهنية عن العالم على فترات مطردة.

ومن ثم فإن الزوال، أي اختزال علاقات الإنسان، ليس مجرد وضع للعالم الخارجي، وإنما له أيضا ظله داخل نفوسنا، إن المكتشفات الجديدة والتكنولوجيا الجديدة، والأوضاع الاجتماعية الجديدة في العالم الخارجي تتفجر في حياتنا في شكل معدلات من التغيير مطردة الزيادة، وفي شكل دوامة للعلاقات أقصر فأقصر، إنها تدفع خطو الحياة نحو التسارع، إنها تتطلب مستوى جديدا من القدرة على التكيف، ولا يمكن لنا السيطرة على التسارع في التغير الثقافي، ولا يمكن فهم مساراته وتوجيهه نحو عملية البناء الذاتي في جميع أبعاده إلا بعد تحديد ثوابتنا في ظل المتغير، ومن ثم التأسيس لها وتمكينها من التفاعل والفعل في مسارات حركة الثقافة، وفي الوقت ذاته السعي الجاد نحو التأسيس والتأصيل لفقه المتغير، حتى يمكن إخضاع الرفض والقبول والتفاعل الثقافي إلى ميزان وأصول وضوابط لا إلى المزاجية والنظرة السطحية للأشياء. لكن للأسف هذا ما نشاهده في الفضاء الثقافي العربي والاسلامي، إذ ترى المثقف العربي تارة يرفض ويغالي في الرفض، ولا تمر فترة وجيزة إلا ونراه يسير في الاتجاه المعاكس فيفرط في القبول والإنكار على غيره. والمجتمع بدوره يسير تبعا لهذا المزاجية فتراه في فترات من الزمن يرفض مثلا تطورا تكنولوجيا ذا بعد ثقافي كالأطباق المستقبلة للقنوات الفضائية، ويفرط في الرفض من دون تحديد ضوابط للرفض. لكن لا تمر فترة وجيزة إلا وتصبح هذه الظاهرة مقبولة ومهمة ومن ثم ضرورية لتقدم المجتمع وتطوره الفكري. هذه باعتبارها مفردة من المفردات التي أوضحت خللا في الرؤية الثقافية التي يؤسس عليها المثقفون نظرتهم للحياة ولتطوراتها وضبابية في فهم مسارات التغير الثقافي. بهذا المعنى نحتاج إلى التأسيس لضوابط في القبول ولضوابط في الرفض، ولا يمكن ذلك إلا بتفعيل وتمكين الثوابت الثقافية من العمل في المسار الثقافي العام، وتأتي هنا أهمية صحة التطبيقات في مجال الفروع الثقافية على أصولها، وكما يقول الفقهاء عند ممارسة الاستنباط: صحة تخريج الفروع من الأصول، وتطبيق الأصول على الفروع، وهذا الأمر يستدعي من ممارسي الحقل الثقافي أن يكونوا ذا فهم عميق للبعد الأصولي من الثقافة العربية والإسلامية لأن العقيدة الإسلامية هي في الواقع نظام ثقافي متكامل محوره معرفة الله وأسمائه الحسنى والإيمان برسله وملائكته واليوم الآخر، وتتفرع عن هذا المحور سائر الحقائق التي توجه سلوك الإنسان، كالبصائر الحياتية والأخلاق والتشريع، وكلما تأملنا في هذا النظام الثقافي وجدناه أقرب إلى العقل، والفطرة، وأكثر انسجاما وتناغما، ما يجعلنا نزداد ثقة بأن احكام الدين والرؤى الثقافية المتفرعة منه تنسجم مع سائر أبعاده من أصول الدين وبصائر الحياة والأخلاق والتي هي قاعدة التشريع وأصلها، وهي التي تمثل القاعدة المتفاعلة مع متغيرات الحياة فتعطي للإنسان الرؤى والبصائر التي تجعله أكثر إدراكا وفهما لما هو حوله، وبالتالي يرسم له سبل المواجهة الناجحة، أما إذا تحرك الإنسان لفهم المتغير الثقافي من زاوية التغير ذاته فإنها يفقد الإيمان بكيانه وهويته ووجوده المتميز.

والتأويل كما يقول مطاع الصفدي: هو أن يشترك النص في طرح سؤال جديد على الفكر ويساهم في تطوير النظرية، وعن معنى التأويل لغويا يقول: هو البحث عما هو أول في الشيء، عما هو الأساس والأصل، وبذلك يكون التحليل منهجها يعيد تحليل وتقييم كل المناهج الباحثة عن الأصول، وعند وصول الممارسة الثقافية إلى هذا المستوى فإن مسار المواجهة يصبح من صالح ثقافتنا وقيمنا، لكننا نحتاج إلى مرحلة أخرى لنكون أقوياء في المواجهة الثقافية وهي ترسيخ الاهتمام بالبعد الاستراتيجي من الفكر والثقافة لأن الحركة المتسارعة للتغير في جميع جوانب الحياة كما قلنا أحدثت إرباكا لمنظومتنا الثقافية حتى غدا ذلك واضحا عندما نشاهد حال الهروب للماضي وللتاريخ وما يحمله من مواقف وحوادث لاستدعاء الماضي بما فيه وبالتالي الصدور الثقافي من الزاوية التاريخية، هذا الأمر يمثل حال الإرباك التي تعاني منها الثقافة العربية والإسلامية، والبعض الآخر يترامى في أحضان كل ما هو جديد، ونحن مع إيماننا بقيمة التاريخ ومكانته بالنسبة إلى منظومة القيم، وكذلك أهمية الثقافة المعاصرة فإن حال الإفراط تمثل المرض الذي لابد من تجنبه، ولا يمكن لمنظومتنا الثقافية الوصول إلى ذلك إلا عند الاهتمام بالفكر والبعد الاستراتيجي من الثقافة، لابد أن تكون نظرتنا قادرة على التأسيس للمستقبل من خلال فهم الواقع والاهتمام بمتغيراته وثوابته





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً