صدرت في الأسبوع الماضي الكثير من التصريحات الأميركية تشير إلى نوع من التخبط في سياسة واشنطن في دائرة «الشرق الأوسط». فإدارة البيت الأبيض في حيرة من أمرها فهي تقول قولها اليوم وتقول ما يتعارض معه غدا.
التخبط هو العنوان المشترك بين مختلف تلك التصريحات التي تصدر تباعا عن هذا المسئول أو ذاك، ولكن إذا دققنا في تفصيلات المواقف نجد أن القرارات الكبرى لاتزال تراوح مكانها. حتى الآن لاتزال واشنطن في مرحلة التراكم ولم يحصل التحول النوعي المطلوب للاستنتاج بأن هناك تغييرات حقيقية في استراتيجيتها الكبرى. خطاب الرئيس جورج بوش عن نشر الديمقراطية الأميركية في المنطقة العربية يؤكد جوهر المواقف التي اتخذها منذ وصوله إلى الحكم وطورها ميدانيا بعد ضربة 11 سبتمبر/ أيلول 2001. فالكلام عن أزمة الديمقراطية في المنطقة العربية الذي كرره وزير الخارجية كولن باول في محاضرة له يفصح عن وجود تلاوين جديدة في خطة الهجوم من دون إحداث أي تراجع نوعي في فلسفة «الحروب الدائمة» و«الضربات الاستباقية».
هذه التلاوين لا تشير إلى نمو نوع من الليونة في التفكير الاستراتيجي الأميركي بل يمكن الاستنتاج منها، ومن دون خبث، أن واشنطن طورت هجومها على الأنظمة العربية... فبعد أن كان الشعار هو ملاحقة الإرهاب وخلايا تنظيم «القاعدة» في أي مكان وزمان ومن دون عودة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن أضيفت إليه مادة سياسية حيوية وهي نشر الديمقراطية في منطقة تعيث فيها الدكتاتورية فسادا بدعم مباشر من الولايات المتحدة امتد قرابة 60 عاما.
كلام بوش عن الديمقراطية لم يأتِ في سياق سحب الشعار السابق (مكافحة الإرهاب) بل جاء في إطار إضافة جديدة إلى المهمات السابقة. وبالتالي يمكن القول إن استراتيجية الهجوم اتسعت ولم تعد تقتصر على بلد أو بلدين أو ثلاثة بل أصبحت سياسة شاملة تلاحق عشرات وربما معظم البلدان العربية والمسلمة. والخطاب (الكلام) جاء ليصب الزيت على نار حامية وليعطي بعض الصدقية لسياسة طائشة وضعت أمامها شعارات أمنية وقررت خوض الحروب ودفع المال والضحايا في سبيل تحقيقها.
اكتشفت الإدارة الأميركية أن الشعارات الأمنية ليست كافية لتبرير حروب دائمة لم تتوقف منذ ثلاث سنوات وأدت في النهاية إلى زيادة الكراهية ونشر العنف ونقله من أفغانستان إلى الكثير من الدول والمناطق المغلقة. كذلك اكتشفت أن الاستمرار في تلك السياسة فقد شرعيته الدولية وتراجع التأييد الأميركي لها في السنة الأخيرة من عهد بوش وعشية معركة رئاسية يبدو أنها ستكون قاسية وغير مضمونة النتائج إذا استمر الحال على حاله.
فكرة الديمقراطية (وهي غبية في كل الحالات) جاءت في سياق التعب الذي بدأ يظهر على وجوه المسئولين عن قضايا الأمن والدفاع والمخابرات الأميركية. كذلك جاء كغطاء سياسي (أيديولوجي) لتبرير النفقات التي تدفعها الإدارة أمام الناخب (دافع الضرائب) الأميركي. فالقول إن إنفاق المليارات سببه ملاحقة تنظيم مشكوك في أمره (وربما وجوده أصلا) ولا يعرف رأسه من آخره مسألة باتت غير مقنعة ولا تجدي نفعا أمام شارع بدأ يتغير مزاجه من تأييد «الحروب الدائمة» إلى الضغط على الإدارة وجعلها تعطي مزيدا من الانتباه لمختلف القضايا الداخلية.
نشر الديمقراطية اكتشاف تأخر 60 عاما كما قال بوش، إلا أنه جاء لينقذ سياسة هجومية من الانهيار العام. فبعد أن كانت وظيفة الحروب البحث عن الأمن الأميركي ولو في أفغانستان أضيفت إليها وظيفة جديدة وهي استبدال الأنظمة الدكتاتورية بأنظمة ديمقراطية. فالحروب لم تعد من أجل الأمن فقط بل بهدف تحقيق «رسالة خالدة» أيضا. و«الرسالة الخالدة» في طبعتها الأميركية هي الديمقراطية أو الحرية. والحرية كما قال بوش في تصريحه الأخير هي «هبة من الله».
التصريحات الأميركية الكثيرة في الأسبوع الماضي تشير فعلا إلى كثير من التخبط في سياسة واشنطن ولكن التخبط هو العنوان وليس بالضرورة إشارة إلى وجود تراجع أو إعادة نظر في الاستراتيجية العامة. فالديمقراطية هي نوع من الوقود الذي يوضع في السيارة حتى تتابع سيرها إلى محطة جديدة. إلا أن ذلك لا يعني أن إدارة واشنطن لا تعاني من مأزق. فالمأزق بدأ و«الديمقراطية» هي واحدة من تعبيراته السياسية... والطريق لايزال في بدايته
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 435 - الجمعة 14 نوفمبر 2003م الموافق 19 رمضان 1424هـ