اعترف الرئيس الاميركي جورج بوش بأن الولايات المتحدة كانت تدعم الحكومات الشمولية في «الشرق الاوسط» وذلك في الخطاب الذي القاه أخيرا أمام «المؤسسة الوطنية للديمقراطية» في واشنطن حين قال «إن حوالي ستين عاما من الدعم الاميركي لانظمة استبدادية في المنطقة أدت الى تغذية شعور معاد للأميركيين يؤجج بدوره الارهاب». هذه الجملة المختصرة تعد الحقيقة الوحيدة والخطوة الأهم في ما طرحه بوش من تحديات لدول المنطقة للتحول نحو الديمقراطية.
ولعل هذه العبارة هي ما دفع صحيفتين اميركيتين رئيسيتين هما «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» الى القول إن على الولايات المتحدة أن تعيد النظر بتحالفاتها مع الدول ذات الانظمة الشمولية في الشرق الأوسط. و«إن الاجراء الذي ينبغي على السياسة الأميركية اتباعه في الشرق الأوسط سيكون البدء بالتحدث بطريقة مختلفة مع حلفائها» في المنطقة. وأوضحت الصحيفتان أنه «حتى الآن، لم تلق البرامج الاميركية عن الديمقراطية في المنطقة طريقها الى التنفيذ بحجة العلاقات التقليدية القائمة مع الحكومات ذات الانظمة الاستبدادية والفاسدة». كما رأت أن «تشجيع الديمقراطية يجب أن يصبح أولوية بالنسب للولايات المتحدة بصورة عاجلة».
وأضافت «إن دولة أخرى إذ تستند أميركا بقوة على ديكتاتور من أجل أمنها هي باكستان (...) ان الدعم الذي قدمه الرئيس برويز مشرف لواشنطن في افغانستان قبل عامين يجب ان لا يجنبه توجيه الانتقاد الى الديكتاتورية التي يمارسها». واعتبرت أيضا أن بوش تحدث بشكل جيد، وهو حق عندما يقول ان واشنطن فشلت في محاولتها الدفاع عن القيم الاميركية في الخارج».
طرح شجاع ومحدد يؤكد بجلاء إن السياسة الأميركية تقوم على قيم وأفكار الفلسفتين الميكافيلية والبراغماتية من دون اعتبار للقيم الانسانية الأخرى وما ترغبه الدول والشعوب الأخرى. ويؤكد أن الحسنة الوحيدة من هجمات سبتمبر/ أيلول هو اقتناع الولايات المتحدة ان ما حدث هو نتاج غطرستها والبلطجة التي كانت تمارسها في دول المنطقة. الولايات تهتم في المقام الأول والأخير بمصالحها الاقتصادية ولتحقيق ذلك فهي تطلق لنفسها العنان وتستخدم كل اجهزة مخابراتها وبل قوتها العسكرية في ازاحة كل ما يقف في طريق تحقيق ذلك سواء ان كان فردا أو مؤسسة أو قوى سياسية بل وحتى الحكومات والدول. وهي في النهاية لاتحالف إلا من تجني الثمار السهلة من ورائه من دون أي اعتبار لمبادئ أو مواقف أو استراتجيات.
والتجربة، والتاريخ ليس بالبعيد يؤكد ذلك، ويكفينا أن نسترجع ما حدث ولايزال يحدث في دول اميركا اللاتينية وهو أبشع نموذج يوضح كيف أن الولايات المتحدة كانت تدعم انظمة دبكتاتوية دموية لم يشهد التاريخ مثيلها من أجل ان تحافظ على مصالحها وأمنها من دون أدني مراعاة لقيمة البشر الذين أزهقت أرواحهم رخيصة بالسلاح الأميركي الذي وضع في يد جلادين سفلة. وإذا كانت الحكومات الأميركية تبرر ذلك في فترة تاريخية ما بمحاولتها وقف المد الشيوعي في تلك المنطقة من العالم فان موفقها الراهن من حكومة فنزويلا التي تعد من كبريات الدول التي تمدها بالنفط يكذب ذلك. والواقع يقول إن الولايات المتحدة تعادي كل الحكومات التي تعمل من أجل مصالحها الوطنية ومن أمثلة ذلك حكومة هوغو شافيز في كاركاس التي يشهد كل العالم بنزاهتها وديمقراطيتها لكنها بالطبع لا تعجب «العم سام» ولذلك يحاول بكل السبل الخبيثة العمل على زعزعتها والاطاحة بها. فعلى أية ديمقراطية يبكون؟.
والمثال الأخر ما يحدث من حروب في أفريقيا بغية وضع اليد على منابع المواد الخام بأرخص الاثمان وكيف ان الولايات المتحدة لم تقف يوما ما لتدعم حكومة ديمقراطية في تلك القارة السمراء وخير دليل على ذلك سحب الدعم من السودان عندما تولت حكومة الصادق المهدي السلطة بعد انتفاضة شعبية اطاحت بحكومة ديكتاتورية عسكرية كانت تحظى بمساندة الولايات المتحدة. كما أن الموقف من وصول جبهة الانقاذ الاسلامية الى السلطة في الجزائر عن طريق صناديق الاقتراع يجعل البشرية جمعاء تقف خجلة مما حدث وأدخل الجزائر الحبيبة في حمام دم لم يجف حتى اليوم. وهناك المثال الواضح وضوح الشمس لمعاداة اميركا لخيارات الشعوب الاخرى. وهو ايران التي أطاحت عن طريق ثورة شعبية بحكم الشاه الاستبدادي الذي كان يحظى طبعا بدعم الولايات المتحدة وكل الغرب الديمقراطي. لماذا لم تحترم الولايات المتحدة التي يتشدق رئيسها بالتحدي الديمقراطي أمام حكومات الشرق الأوسط رغبة الشعب الايراني في قيام حكم إسلامي؟ هل أتت حكومة ظهران على متن دبابة أو بدعم من أجهرة مخابرات معادية لأميركا؟ لا، لكن كيف ترضى واشطن عن حكومة وأنظمة لم تضع بصمتها عليها لتكون لعبة في يدها تحركها كيف تشاء وتذلها عندما ترغب بذلك.
واقع الوطن العربي محير ويكثر فيه الكلام لكن نكتفي بالاشارة لوجود «اسرائيل» ربيبة أميركا والغرب والصهيونية التي زرعت في رحم المنطقة لتبقيها في حالة غليان مستمر واستهلاك شامل لمواردها وطاقتها البشرية والفكرية. فأية ديمقراطية تقوم في دول تشعر بالتهديد العسكري من جرثومة تنعم بكل الدعم المادي والعسكري من الولايات المتحدة؟.
سؤال أخير موجه للرئيس الأميركي وادارته، هل يقبل بوش بخيار الشعوب العربية إذا ارتضت الديمقراطية كمنهج ولا يتدخل في النتائج والقرارات المصيرية التي تتخذها؟ وهل يسمح للتيارات والاحزاب الاسلامية بتولي السلطة إذا فازت في الانتخابات؟ هل يتركنا الغرب نختار مصيرنا وحكامنا بالاسلوب الذي نريد وعندها لاخوف عليهم من الارهاب أو ارهابيين؟
إقرأ أيضا لـ "ابراهيم خالد"العدد 434 - الخميس 13 نوفمبر 2003م الموافق 18 رمضان 1424هـ