العدد 434 - الخميس 13 نوفمبر 2003م الموافق 18 رمضان 1424هـ

الطرد من الدولة

فرق المعتزلة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بين انقلاب الخليفة المتوكل السياسي (234هـ/ 848م) على المعتزلة وانقلاب الامام الاشعري الايديولوجي (324هـ/ 935م) عليهم هناك مسافة زمنية امتدت 90 سنة بين الانقلابين الاول والثاني. فالأول جرد المعتزلة من صلاحياتهم ومواقعهم في الدولة والثاني جردهم من سطوتهم العقائدية التي لوثت الفكر الإسلامي قرابة 40 سنة في الحكم.

الانقلاب السياسي على المعتزلة لم يكن كافيا للقضاء على نفوذهم الايديولوجي في الحركات والفرق الاسلامية وبعض النخب السياسية والمثقفة... لذلك استمرت المعركة الكلامية وكان لابد من استكمالها وتطويرها ضدهم على المستويين الثقافي والايديولوجي بعيدا عن هيمنة سلطة «الحزب» الواحد وتسلط ايديولوجيته على النخبة والعامة.

المعركة الكلامية التي اندلعت بعد اخراج المعتزلة من ديوان الخلافة كانت عنيفة وقاسية واستغرفت وقتا طويلا لانها تمت خارج السياسة وضمن شروط الحوار السلمي الحر. ولأن المعركة انتقلت من دائرة السياسة إلى دائرة الكلام تراجع دور الدولة في تلك المسألة الخاصة. فالمعركة الكلامية لم تكن مهمة الدولة فهي واحدة من مهمات كثيرة قام بها الائمة والعلماء والفقهاء والقضاة.

آنذاك كان الاختلاف مع المعتزلة اتسع وتشعب وطال الكثير من الجوانب والحقول، حدد بعض اطرها ابن حزم في كتابه «الفصل» وتركزت في معظمها على نقطتين جوهريتين: الأولى تمس التوحيد والثانية طاولت الهوية الاسلامية. الجانب الأول من المعركة المزدوجة مع المعتزلة له صلة بوحدة الصانع وصفاته وقدراته، والثاني له صلة بهوية المسلم والتعريف به (من هو المسلم وما هي صفاته؟).

وفي هذا السياق صدرت الكثير من الردود تناولت الفرق الاسلامية وتعريفها، وطاولت الملل والنحل والصفات. فالصفاتية كانت تهمة اطلقها المعتزلة على أهل السنة والحديث. ورد الائمة والعلماء والفقهاء عليها بتهمة مضادة فاطلقوا على المعتزلة تسمية النفاة (ينفون صفات الصانع) وما عرف بتيار النفاتية.

في كتابه «الفصل» يذكر ابن حزم بعض مصادر تلك الخلافات ويحدد مرتكزاتها بالنقاط الآتية:

التوحيد، القدر، الايمان، الوعيد، الامامة، المفاضلة، اللطائف، القديم والمحدث (ص 275). فالمسلمون عموما افترقوا على هذه المعاني وتفسيرها اضافة إلى الكثير من المفردات التي دخلت قاموس اللغة الاسلامية في عصر الفتوحات والترجمات والتلاقح الثقافي بين الاسلام ومختلف الأمم. وبسبب ذلك التطور التاريخي كان لا بد من احداث طفرة نوعية في الفقه الإسلامي حتى يستطيع المواجهة والرد والدفاع عن العقيدة استنادا إلى اجتهادات قام بها الائمة الكبار في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة كالامام جعفر الصادق، والامام الاعظم (أبو حنيفة)، والامام مالك بن أنس، ومن جاء بعدهم كالامامين الشافعي وابن حنبل.

لا شك في ان طرد المعتزلة من الدولة واسقاطها انقلابيا ساعد الائمة والعلماء والفقهاء على التفرغ للمعركة الفكرية (الكلامية) مع فرق المعتزلة ونجح هؤلاء في تسجيل مكاسب فقهية على مدارس فرقها وشيوخها بعد ان تساوت القوى وترك للحركة مجالها السياسي والعقائدي.

كان وقع الانقلاب على المعتزلة قويا إلى درجة توفي من شيوخهم في فترة عشر سنوات عدد كبير بسبب اختلاف الحال والاحوال وانتقالهم من موقع السلطة إلى واقع العزلة عن الناس. مثلا يقال عن المعتزلة أيام العز إن جعفر بن حرب (أبو الفضل الهمداني) رفض الصلاة خلف الخليفة الواثق بعد أن حضر مجلس الواثق للمناظرة. ففي عهد الواثق (آخر خليفة معتزلي) بلغت قوة شيوخ الفرق درجة لا تضاهى وبات الخليفة اسير توجيهاتهم وتوجهاتهم. وابن حرب الهمداني (من همدان) الذي انتهت إليه رئاسة المعتزلة في وقته كان أحد أبرز مراكز القوى في الدولة وصاحب تيار يمتلك قوة نفوذ تمتد وتتصل بأحد كبار شيوخ المعتزلة المردار. وابن حرب كان من تلامذته الأمر الذي اعطاه سطوة بالتعاون مع صاحبه جعفر بن مبشر الثقفي، لمواجهة الخصوم والاستعلاء على الواثق اثناء الصلاة.

الجعفران (ابن حرب وابن مبشر) كما يرد ذكرهما في كتب الفرق والملل والنحل خاضا معارك عنيفة على فترتين الأولى: خلال رئاسة الدولة. والثانية بعد طردهما منها. ويعتبر هذا الجيل المخضرم الذي عاش المرحلتين من النماذج التي تكشف عن خصوصية الدور الذي لعبته الدولة في تعزيز شأن المعتزلة وثم انعكاس الدور وانقلاب الزمن على فرقها.

إلى الجعفرين هناك الكثير من الأسماء التي يمكن اضافتها على هذا الرعيل المخضرم الذي شهد العز والذل في وقته، فهناك الاسواري، والاسكافي، وعباد بن سليمان، والجاحظ، والفضل الحدثي، وصولا إلى الشحام (توفي سنة 267هـ/ 880م).

هذه الكتلة من الاقوياء تعتبر في السياق الزمني هي خط الدفاع الأخير لفرق المعتزلة قبل ان تتشتت وتتفرق إلى مجموعات منعزلة تكرر نفسها وتتناسل من دون ولادة الجديد الذي ينقذها من مفاهيم تورطت فيها في فترة عزها وتسلطها.

فهذه المفاهيم بقيت مطروحة على ساحة النقاش الكلامي تتعرض للتعديل والتعديل إلى ان تلاشت واضمحلت مع الوقت.

كانت النهاية الايديولوجية صعبة. وقبل ان تصل إلى ذاك الطور من التحول مرت افكار المعتزلة بظروف قللت كثيرا من نزعة التطرف والعدوانية... إلا انها لم تقلل من استمرار الهجمات عليها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 434 - الخميس 13 نوفمبر 2003م الموافق 18 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً