إذا كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بمناسبة الذكرى الـ 16 لتسلمه السلطة، لم يخرج عمليا عن الثوابت في السياستين، الداخلية والخارجية، فإنه ركز في المقابل هذه السنة على تعزيز الجانب الاجتماعي - الاقتصادي. في هذا الإطار، فإن رفع مستوى تونس إلى مصاف الدول الناشئة، كان الهدف الأبرز الذي ورد في هذا الخطاب - البرنامج. فمن أجل الوصول إلى تحقيق هذه التوجهات الجديدة، اتخذت جملة من الإجراءات بحيث تتواكب مع المرحلة المقبلة التي تتضمن محطات استحقاقات على قدر كبير من الأهمية.
أراد الرئيس التونسي في بداية مداخلته، وعلى طريقته في إيصال رسالته، تحسيس جميع مكونات المجتمع من سياسية ونقابية واقتصادية بالمسئولية. كما شاء أن يوضح أنه إذا كانت المتكسبات الاجتماعية - الاقتصادية ستتعزز على الدوام، فإنه يتوجب مع ذلك، على جميع الأطراف، بذل المزيد من الجهد. ويعود السبب الرئيسي في ذلك، لعدم تبدل الظروف المحيطة الصعبة، سيما على الصعيد الاقتصادي، ما يحتم مضاعفة العمل لصالح ايجاد استثمار منتج يوفر الشروط الأساسية لكسب رهان المنافسة من جهة، ومن جهة أخرى، ضمان إدخال التكنولوجيا الحديثة والاندماج في اقتصاد المعرفة.
باختصار، حاول بن علي افهام المعنيين للمرة الأخيرة بحسب قول أحد المقربين منه، بأن عصر «الدولة الراعية» قد ولى، وأنه يتوجب على كل واحدة من مكونات المجتمع، لعب الدور المطلوب منها من دون تلكؤ واتكالية، فيما لو كانت هنالك إرادة باستباق التحولات على المستويين المحلي والدولي كما عمد لتذكير من يهمه الأمر في تونس، بأن الاستحقاقات المقبلة لن تكون سهلة كما يعتقد البعض. في هذا السياق، يرى الرئيس التونسي أن العالم، في ظل التخبط الكبير الحاصل، لن يقدم الهدايا لا للفقراء ولا للضعفاء الذين لا يستطيعون اللحاق بركب التحولات العالمية.
تشخيص موضوعي
لم يخفِ بن علي شيئا تقريبا في هذا الخطاب الذي يسبق مرحلة دقيقة للغاية. فالأشهر المقبلة تحمل في طياتها استحقاقات رئيسية على تونس أن تثبت من خلالها، مرة جديدة، أنها على مستوى الدول الناشئة التي تحاول أن تجد مكانا في مصاف الدول المتقدمة ولو نسبيا؛ ففي بداية شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل، ستستضيف العاصمة تونس قمة 55 لرؤساء دول أوروبية وأخرى مغاربية متوسطية. وفي شهري يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط 2004، تنظم كذلك كأس إفريقيا للأمم، لتنتقل مجددا لاستضافة القمة العربية الدورية المقررة في شهر مارس/ آذار، وسط مناخات من التوتر، وخصوصا في ظل استمرار احتلال العراق وما يترافق معه من مقاومة وتفجيرات دموية، وفي ظل مجازر يومية ترتكبها القوات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، يضاف إليها العراقيل التي تعوق انطلاقة اتحاد المغرب العربي. ذلك، وصولا للاستحقاق الأهم، وهو إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد في شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
انطلاقا من هذه العناصر والمعطيات، أراد بن علي التذكير بأن المرحلة الماضية، وتحديدا منذ 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لم تكن نزهة. لقد اتسمت بحسب رأيه، بتحولات متعددة الجوانب كادت تحدث اختلالات وتؤثر عميقا في أداء الكثير من القطاعات المحلية، معتبرا أنه لو لم تكن هنالك مبادرات فورية لاحتواء هذه المستجدات السلبية واعتماد الإجراءات الملائمة لكسر حدة الأزمات والسيطرة على معدل التضخم، ما سمح لوكالات تقييم المخاطر العالمية بتحسين علامات تونس، لكن الوضع اليوم مختلف. ويرى الرئيس التونسي أن اجتياز الحواجز الصعبة الذي ترجم بخفض نسبة الاختلالات في الموازين كافة، والالتفاف على بؤر التوتر، لا يعني أن تونس لا تعيش في ظل بيئة إقليمية ودولية متأزمة. فإذا كان تنويع القاعدة الاقتصادية وتحسين مستوى العيش وزيادة الأجور والعودة إلى معدلات النمو الاقتصادي لمستوياته السابقة ساعدت على مواجهة الظروف السيئة، فإن ذلك لا يجب أن يدفع البعض للاعتقاد بأن العاصفة قد أصبحت وراء تونس. هذا ما يمكن قراءته بين سطور هذا الخطاب - البرنامج.
ومن أجل التأكيد أن كل ما في الإمكان قد تم استخدامه لرفع مستوى تونس لمصاف الدول المتقدمة ارتكز الرئيس التونسي على الأرقام. وتعطي مؤشرات الاقتصاد الكلي فكرة واضحة عما تحقق في هذا المجال؛ فالمعدل الوسطي - المنتظم منذ أكثر من عشر سنوات للنمو الاقتصادي مقارنة بنتائج الدخل القومي الإجمالي الذي كان بحدود الـ 5 في المئة، سيصل بنهاية العام الجاري إلى عتبة الـ 5,5 في المئة. ذلك، على رغم التأثيرات التي خلفتها الصعوبات على الوضع الاقتصادي الذي شهد خلال العامين الماضيين جملة من الشروط القاسية المختلفة. إن تحقيق المشروعات الواردة في الخطة الخمسية الجديدة قد خطى خطوات جادة على رغم التشابكات التي كانت خارج الإرادة. مع ذلك، ينبغي القول إن الانجاز قد سبق الروزنامة المحددة.
من ناحية أخرى، فإن التحرير غير المتسرع للاقتصاد، الذي أدى للاندماج التدريجي في الدورة العالمية موسعا بذلك القاعدة التصديرية، جاذبا الاستثمارات الخارجية المباشرة - الهدفان المحددان في خطاب السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 - قد أعطى ثماره في نهاية المطاف. في سياق التشخيص الموضوعي نفسه لمؤشرات الاقتصاد الكلي، توقف بن علي عند المحافظة على التوازنات المالية، داخليا وخارجيا، كذلك عند تقييم حجم الدين المتراجع، وعند زيادة دخل الفرد الذي وصل إلى 3125 دينارا (الدولار 1,37 دينار تونسي)، وفقا للهدف المحدد. من ناحيته، تراجع معدل الفقر، أحد الهموم الرئيسية للحكومة التونسية بعض الشيء، بحيث انخفض معدل البطالة الذي جاور للمرة الأولى نسبة 14,3 في المئة.
... وإجراءات ملائمة
ففي سبيل تحقيق الهدف الرئيسي المتلخص في رفع مستوى تونس لمصاف الدول المتقدمة، أعلن الرئيس التونسي عن سلسلة من الإجراءات والمبادرات المتخذة. أهمها، بحسب المحللين الأجانب، الموجودين في العاصمة التونسية، التوجهات المعطاة «للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية» بمراقبة واستباق التحولات المقبلة، داخليا وخارجيا. وتفيد المعلومات في هذا الصدد، بأن دراسة تحمل عنوان «تونس وآفاق 2003»، هي الآن قيد الإعداد. مبادرة أخرى، لفتت أنظارهم في الخطاب وهي المتعلقة بإصلاح قطاع الإعلام. في هذا الإطار، أعلن بن علي عن فتح المجال السمعي - البصري للإذاعات والتلفزيونات المملوكة من القطاع الخاص. كما بدأت إذاعة خاصة في اليوم نفسه ببث برامجها. وكلف «المجلس الأعلى للاتصال» بدراسة الملفات المقدمة من أصحاب الشأن وإعطاء الردود في المهل المحددة. أما فيما يتعلق بالعدد المسموح به والجوانب القانونية، كذلك حدود المبادرات، فيؤكد المسئولون التونسيون أن كل شيء سيتضح كليا في الأسابيع المقبلة.
ومن بين الإجراء الأخرى، النَفَس الجديد المخصص للإصلاح البنيوي، بحيث يمكِّن البنية الاقتصادية من التفاعل بشكل مؤثر مع التحولات المقبلة، وخصوصا فيما يتعلق بتوسعة الاتحاد الأوروبي شرقا، وتزايد المنافسة، وظهور منافسين جدد في قطاعات الصادرات والخدمات التقليدية. الأكثر من ذلك أن بن علي قد أعلن أن حصة العائلات بالعملات الأجنبية التي يمكن للشركات الاحتفاظ بها قد ارتفعت من 50 في المئة إلى 70 في المئة، ما يسمح لهذه المؤسسات بامتلاك الوسائل لمواجهة المخاطر الناجمة عن التذبذب الحاد في أسعار الصرف وتعزيز أوضاعها المالية.
وفيما يختص بمسألة فرص العمل، فقد أعدت الدولة برنامجا يمتد حتى نهاية العام 2004 يتم بموجبه توظيف 10500 طالب عمل جديد، من بينهم ألف شخص في الإدارة العامة. هذا عدا تضمين 8400 شخص آخر في إطار موازنة الدولة. وتتحمل هذه الأخيرة في سنة العمل الأولى 50 في المئة من أجور الأشخاص دون أن تزيد مساهمتها عن 250 دينارا شهريا للفرد الواحد. وفي سياق المبادرات الاجتماعية - الاقتصادية عينها، أشار الرئيس التونسي إلى خفض بنسبة 25 في المئة لكلفة الخدمات العائدة لنقل المعطيات على الانترنت وإبرام الاجراءات المتعلقة بالربط الدولي المتخصص، أيضا، خفض 25 في المئة من كلفة الربط بالهاتف الثابت.
إجراءات ومبادرات مختلفة وموزعة، لكنها تعتبر، في رأي المراقبين الأجانب في تونس، على قدر من الأهمية بالنسبة إلى المجتمع يلحظ أن مكتسباته الاجتماعية تتعزز تدريجيا على رغم المعوقات والظروف الإقليمية والعالمية المتوترة، ما يقوي أكثر من قدرات الطبقة الوسطى، الأهم في العالم العربي بمعدل يقدر بنحو من 70 في المئة
العدد 433 - الأربعاء 12 نوفمبر 2003م الموافق 17 رمضان 1424هـ