هدد وزير الخارجية الأميركي كولن باول الدول العربية في محاضرة له توضيحا لخطاب رئيسه جورج بوش عن انقلاب السياسة الأميركية في منطقة «الشرق الأوسط». التهديد جاء في صيغة تخيير بين الديمقراطية أو الدمار/ الخراب الشامل.
كلام باول، وهو الوزير العاقل والمعتدل قياسا لمجموعة أشرار ومجانين يتحكمون بقرار «البنتاغون»، يدل على وجود ضغوط داخلية تدفع إدارة البيت الأبيض نحو اتخاذ سلسلة تدابير عاجلة قد تطيح بالكثير من الثوابت الجاري اعتمادها كعناوين كبرى في العالمين العربي والإسلامي.
وتزامن كلام باول مع ثلاث خطوات: الأولى فشل صفقة تبادل الأسرى بين حزب الله اللبناني و«إسرائيل» على اثر تفخيخ حكومة شارون لشروط التبادل. والثانية تهديد وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز بخطف السيدحسن نصرالله وكرر انذاره بتجديد الهجوم على سورية بعد اجتماعه مع وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد. والثالثة موافقة مجلس الشيوخ الأميركي بغالبية كاسحة على مشروع «قانون محاسبة سورية» وفرض عقوبات اقتصادية عليها بذريعة الضغط على دمشق ووقف دعمها لما يسمى «الارهاب».
وفي حال وضعنا كلام باول - العاقل والمعتدل - في سياق تلك التطورات التي ترافقت مع تصعيد الهجوم الأميركي على إيران انطلاقا من تحريك ملفها الداخلي (رجال الدين المتشددين) يمكن أن نفهم المقصود من تخيير وزير الخارجية الأميركي الدول العربية بين الدمار والديمقراطية. فالاختيار في هذا السياق لا معنى له لأنه يضع الحرب أو التفكيك الداخلي مقابل الديمقراطية وهي ليست مجرد كلمة تقال بل صيغة سياسية - مفهومية تحتاج إلى دراسة وقراءة وإعادة صوغ قوانينها ودساتيرها حتى تتوافر لها عوامل النجاح. فالحرب (الدمار) كما تبدو من تهديدات باول هي مهمة عاجلة أما تلك التي يقال لها «ديمقراطية» فيمكن تأجيلها أو تجميدها. باول لم يخير الدول العربية بين الحرب والتسوية أو بين الدمار والسلام... فالاختيار في هذا الجانب يمكن الوصول إليه عبر المفاوضات أو التفاهمات بإشراف دولي أو تحت مظلة أميركية. أما التخيير بين الويل والثبور من جهة والديمقراطية من جهة أخرى فهذا موضوع يثير الشبهات السياسية حتى لو وافقت الدول العربية مجتمعة ومتفرقة من المحيط إلى الخليج على تبني مسألة الديمقراطية. فالديمقراطية في النهاية فكرة تحتاج إلى تدريب وتنظيم وصيغ دستورية وقانونية وهي ليست مطلبا بقدر ما هي أداة من أدوات صنع السياسة وقراءة موازين القوى والاستقطاب السياسي في المجتمع. والديمقراطية أيضا هي مشروع تاريخي غير جاهز بل عمليات متتالية من التناوب على السلطة تنتهي في الأخير إلى ضبط علاقات القوى وتوازنها في صيغة سلمية تسمح بالتداول من دون قهر أو انقلاب.
الديمقراطية ليست سيارة جاهزة أو ملابس جاهزة تصنّع في معامل الغرب أو الشرق ويعاد تصديرها للاستخدام الفوري. انها أصلا موضوع توافقي يقوم على مبدأ إقرار الدستور والتفاهم على سيادة الدولة واستقلالها ووضع مصلحة المجتمع كجماعة واحدة من دون تفرقة أو تمييز فوق كل مصلحة. وبهذا المعنى تحتاج الديمقراطية العربية إلى وقت (زمن) ومناخ (سياسة) وعدم تدخل من قوى خارجية (واشنطن) ووقف العدوان (تل أبيب) وغيرها من أجواء تحفز القوى المتخاصمة على إعادة التفكير بنفسها والاعتراف بغيرها.
من كلام بوش وبعده باول يمكن أن يفهم العكس من ذلك. فالكلام (الخطاب) عن الديمقراطية هو أشبه بالفزاعة التي تخيف الأنظمة وتوتر شعوبها وكأن المقصود بها أشياء أخرى غير خير الشعوب وضمان مستقبلها وحفظ حاضرها من الدمار والخراب. وهذا هو بالضبط مشكلة المنطقة العربية مع العقلية الانقلابية في واشنطن. فبوش من جانب يعتذر من شعوب المنطقة على سياسة عمرها 60 عاما من دعم الدكتاتورية ويريد في الآن نفسه اقتلاع أنظمة مرّ عليها 60 عاما في قفزة زمنية لا تتجاوز الشهور الستة.
هذا التناقض بين سياسة تقليدية خاطئة وتوجهات انقلابية كارثية يرجح في النهاية أن المقصود من كلام الديمقراطية هو إثارة التوتر والقلق والتشجيع على الفتن لتبرير سياسات أميركية تدخلية تخطط لها «البنتاغون» في السنة الأخيرة من عهد بوش. وهذا النوع من الديمقراطية يحول الفكرة من مشروع سياسي إلى تهديد أمني.
واسقاط السياسة من القراءة الموضوعية يزيد من المشكلة الأمنية ويفاقم تداعياتها إلى حد التهور الذي لا يجد أمامه سوى الذهاب بعيدا في «التآمر» وبالتالي المغامرة بالموجود بحثا عن مجهول (ديمقراطي) لا يعرف اسمه ولا عنوانه وما هي أهدافه القريبة وغاياته البعيدة. هذه فزاعة وليست ديمقراطية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 433 - الأربعاء 12 نوفمبر 2003م الموافق 17 رمضان 1424هـ