العدد 432 - الثلثاء 11 نوفمبر 2003م الموافق 16 رمضان 1424هـ

وقفة مع «المقاومة العراقية»

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

لم يعد من الممكن تجاهل دور «المقاومة المسلحة» داخل العراق وتأثيراتها المحتملة على مستقبل التطورات السياسية في هذا البلد المستعمر والمنهار. لقد كان من الطبيعي أن يقع التهوين من شأن هذه المقاومة في بداية تحركاتها، إذ كانت محدودة جغرافيا ومعزولة شعبيا وقليلة التأثير على معنويات الجيش الأميركي. لكن الأمر أصبح مختلفا اليوم عندما اتسعت دائرتها، وتطورت وسائلها، وتعددت ضرباتها الموجعة، وأصبحت أشبه بحرب الاستنزاف، ما أشاع حالة من القلق الشديد في صفوف القوات الأميركية، وحالة من الارتباك داخل إدارة الرئيس بوش. وعلى رغم أنه يصعب القول الآن إن الطرف أو الأطراف التي تقف وراء هذه العمليات قد تمكنت من افتكاك كامل المبادرة السياسية في العراق، فإنها نجحت إلى حد كبير في لفت الأنظار، وأخذت تفرض نفسها بشكل تصاعدي على الساحتين المحلية والدولية.

كل استعمار يفرز بالضرورة مقاومة

لم يكن مستبعدا أن تتشكل في العراق مقاومة مسلحة ضد الاحتلال الأميركي البريطاني. فهذا الاحتلال كان يفتقد منذ البداية لأية شرعية أو سند من القانون الدولي. وعلى رغم أن قطاعات واسعة من الشعب العراقي قد رحبت فعلا بسقوط نظام صدام حسين، الذي تميز بالقمع الشديد والاحتكار الكامل للسلطة، لكن الفرحة بالتغيير كانت منذ البداية ممزوجة بمرارة وخوف من المستقبل وعدم ثقة في نوايا وخلفيات الإدارة الأميركية. كان من الخطأ الاعتقاد بأن الشعب العراقي يمكن أن يرضى ويتكيف مع نمط استعماري كلاسيكي.

«فن» الاستخفاف بالرأسمال الرمزي

الذي زاد من توفير شروط لاندلاع مقاومة مسلحة وتغذيتها هو حجم الأخطاء التي ارتكبها الأميركيون قيادة وعسكرا في حق هذا البلد الضارب في أعماق التاريخ. فإدارة بوش لم تثبت فقط رغبتها الجامحة في ممارسة الغطرسة والهيمنة الفجة، ليس على العراق فقط ولكن على العالم كله، ولكنها كشفت أيضا عن فقر ثقافي مدقع واستخفاف رهيب بالرأسمال الرمزي للشعوب بما في ذلك تراث وقيم الشعب الأميركي نفسه. لقد تجلى ذلك منذ اللحظة الأولى عندما سمحت بنهب المتاحف والآثار والمكتبات العراقية، واكتفى جيشها بحماية وزارة النفط.

كما كانت إدارة بوش تجهل أيضا المكانة التاريخية للدولة في حماية وحدة العراق وضبط إيقاع المجتمع، عندما أصرت على حل كل المؤسسات بما في ذلك مؤسسة الجيش التي تخلت عن صدام حسين، وكذلك الشرطة والوزارات، وحولت ملايين العراقيين إلى عاطلين يبحثون عن الطعام والأمان. وتوهمت أن قواتها ستتمكن بمفردها من إدارة الأوضاع المحلية بكل يسر وعد من الجميع.

كما استخفت هذه الإدارة أيضا بدور الدين والمراجع والقبائل في تأطير المجتمع العراقي وتوجيهه والحفاظ على لحمته ووجوده. لهذا فوجئت بحجم الشيعة وولائهم لعلمائهم، وإصرارهم على استقلالية قرارهم، وعدم استعداد معظم قياداتهم لتجاوز حدود معينة في التعاون مع المحتل. كما استغربت هذه الإدارة من شدة التداخل المذهبي والثقافي والسياسي بين شيعة العراق وشيعة إيران. كما أنها لم تقدر نوعية الردود التي يمكن أن تترتب عن عدم احترام جنودها لتقاليد العراقيين والمس من حرماتهم. كل هذه الأخطاء الاستراتيجية والمهمة، تراكمت وتداخلت لتشعر عموم العراقيين بأن اختفاء نظام صدام حسين لن يترتب عنه استقرار ونهوض وديمقراطية حقيقية ما لم يغادر الأميركيون وحلفاؤهم أرض العراق في أقرب الآجال. من هنا بدأ كثير منهم يتكيف مع مبدأ المقاومة، ويفصحون علنا عن مطلبهم بتسليم إدارة شئون البلاد لحكومة وطنية منتخبة.

ملاحظات عن «المقاومة»

ما هذه المقاومة؟ ومن يقف وراءها؟ وهل لها رأس واحد وتنظيم موحد؟ أم لها رؤوس متعددة واتجاهات متباينة؟ ثم ما أهدافها وخططها السياسية؟ هل تريد ابتزاز العدو لفترة معينة ثم تقايضه على عدد من المطالب أم أن لها أهدافا وأغراضا أخرى؟ هل جميع عناصرها عراقيون أم هناك متطوعون قدموا من خارج العراق، وآخرون مرتبطون بجهات ودول كثيرة؟ هذه الأسئلة وأخرى تحير المواطنين العراقيين أنفسهم، وتقض مضاجع الأجهزة الأميركية التي أعلنت أنها تحارب عدوا غير واضح المعالم.

مع ذلك يمكن الإشارة إلى عدد من الأطراف التي قد تكون وراء هذه المقاومة:

- صحيح أن سقوط نظام صدام كان مدويا ومفاجئا من حيث السرعة، وحجم الخيانات التي حصلت في صفوفه، وعمق الهوة بينه وبين الشعب، لكن الفئات التي كانت مستفيدة منه ووجدت نفسها مهددة في وجودها شكلت فيما بعد قوة رفض لا يمكن الاستهانة بها. فبقايا الجيش، وميليشيات صدام، وعدد من البعثيين القدامى، وأصحاب الولاءات القبلية من أهالي منطقة تكريت، كل هذه الأطراف يمكن أن تتحول بفضل قيادة سرية مرتبطة بالرئيس السابق وعارفة بطبيعة الأرض وخفايا البلد إلى قوة تحسن استثمار الأسلحة المخزونة، وترهق الأميركيين في حرب غير تقليدية يمكن أن تستمر سنوات طويلة.

- لا يمكن اختزال «المقاومة المسلحة» في أنصار الرئيس المخلوع. هناك مجموعات وطنية ودينية هالها التصرف الأميركي في أقدار البلاد والعباد، وقررت بعد تراكم سلسلة من الأخطاء والانتهاكات التي مست الأرزاق والأعراض أن تنخرط من منطلقاتها العقدية والسياسية في اصطياد جنود الاحتلال.

- هناك أيضا بعض المتطوعين العرب وغيرهم الذين تحولوا إلى العراق قبل الحرب، وبقي بعضهم في الداخل بعد سقوط بغداد. هؤلاء وجدوا المناخ مناسبا لاستكمال المهمة التي طرحوها على أنفسهم. فهم يعتقدون أنهم جاءوا لمحاربة عدو مغتصب لأرض عربية مسلمة. وبما ان حال الاغتصاب لاتزال مستمرة فهم يعتقدون أن من واجبهم محاربته.

- ما يقال عن تنظيم «القاعدة» ليس كله مبالغة. فهذا التنظيم ما كان له أن يتشكل لو لم يجد في أفغانستان قبل قيام حكم «طالبان» مناخا «مثاليا» للتعبئة والتدريب والتشكل. لهذا من الطبيعي أن يجد أنصاره في الانخرام الأمني الكبير بالعراق ، وفي غياب الدولة التي انهارت بالكامل، فرصة ذهبية للقيام بنشاطات شبيهة بتلك التي حصلت في الصومال. فكل ما من شأنه أن يساعد على قتل مزيد من الجنود الأميركيين أو غيرهم من الغربيين يعتبر بالنسبة لقيادة تنظيم القاعدة فرصة للانتقام واستنزاف عدوها العالمي.

- بعض العمليات التي نفذت ضد مقر الأمم المتحدة ببغداد أو الصليب الأحمر الدولي أو اغتيال الحكيم بتلك الطريقة الفظيعة، تدلل على وجود أطراف خفية لها أهداف مختلفة عن أهداف أية مقاومة وطنية وشريفة. فهناك مؤشرات تدل على أن الساحة العراقية قد تصبح شبيهة بالوضع اللبناني أثناء الحرب الأهلية، عندما أصبحت البلاد ساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية متداخلة.

- هذا المشهد الذي تغيب فيه الرؤية، ويختلط فيه الحابل بالنابل، ويصعب فيه تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود، هو الذي جعل عموم العراقيين، بقدر كرههم للوجود الأميركي وسياسات إدارة بوش المعلنة والخفية، بقدر ما يتعاملون بحذر وارتياب مع «المقاومة» الحالية.قد يفرح بعضهم عند حدوث عمليات هنا وهناك، لكن البعض الآخر ينزعج عندما تحرق مدارس أو يقع تخريب بعض الخدمات الأساسية أو يقع الاعتداء على موظفين ومتطوعين أجانب جاءوا لتقديم خدمات حيوية للشعب والبلاد. ويتمنى كثير من العراقيين ألا يكون وراء هذه «المقاومة » صدام حسين وأنصاره لأن ذلك بالنسبة إليهم سيكون استمرارا في لعبة السيئ والأسوأ.

إن ما يجري على الأرض يدل بوضح على أن الأحزاب السياسية العراقية فشلت إلى حد الآن في كسب ثقة الشارع العراقي، وإقناعه بشرعيتها وقدرتها على قيادته والتحدث باسمه والدفاع عن مصالحه. هذا ما أكده أول استطلاع حر لمعرفة اتجاهات الرأي العام، وهذا ما يثبته الواقع بكل المقاييس والمؤشرات. إن العمل على إسقاط نظام مستبد هدف مشروع لكل معارضة وطنية، لكن العجز عن تعويضه وإقامة بديل يكون أفضل منه نتيجته خراب العمران وفقدان السيادة. من هذه الزاوية يبدو المستقبل السياسي للعراق غامضا ومخيفا إذ تدل المؤشرات على أن البلاد تتجه إلى مزيد من الفوضى والعنف والانهيار الشامل

العدد 432 - الثلثاء 11 نوفمبر 2003م الموافق 16 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً