بداية لابد من التأكيد أن وضعنا السياسي محليا بات يتسع بالتدريج لكثير من الأسئلة التي تحتمل الكثير من الإجابات والتي كثيرا ما نطرحها ونبلورها جميعنا بين الحين والآخر من دون أن نجد - نحن المهمومين بوحدة ومستقبل هذا الوطن - آليات فعل ترتقي إلى كل هذا الخوف والهاجس القابع في صدورنا خوفا على مستقبل هذا الوطن ومصالح شعبه، وتلك في اعتقادي إحدى السمات التي باتت - بكل تأكيد - تميزنا - نحن أبناء البحرين - عمن سوانا بين دول المنطقة ربما لعدة اعتبارات ليس أقلها أن مصير هذا الشعب ومستقبله قد شكلا على الدوام هاجسا ضاغطا باتجاه حوادث وإرهاصات مجتمعية عبر تاريخ بلادنا الحديث.
من هنا فإننا لا نشك لحظة في أن الحراك السياسي والمجتمعي في بلادنا كان على الدوام باتجاه عقلنة الصراع ومحاولة فهم تجلياته، إلا أن الملاحظ - كما يبدو - حتى الآن أن كل ذلك الفهم وكل ذلك الواعي اتخذ سمة نخبوية في طابعها الأعم من دون أن يدخل إلى عمق القضايا المطروحة وفهم أبعادها في أحيان كثيرة، ونحن هنا لا نستطيع أن ندعي العقلنة المجتمعية فتلك مثالية لن تخدم الهدف الأسمى الذي من أجله نسعى مع كل المخلصين إلى أن نصل بهذا الوطن وشعبه إلى مساحات أرحب وآفاق أوسع من التفاعل الاجتماعي على طريق صوغ وعي مجتمعي متأصل في نسيج القاع الاجتماعي بكل شرائحه وفئاته، بحيث يكون أولا وعيا وطنيا مخلصا ومتجردا وهادفا لا يرتضي أن تنحرف بوصلته باتجاه الطائفة أو الفئة أو العرق أو حتى الحزب والتيار، ولابد معه إذا من أن نعمل متشاركين على صوغ فهم أوسع لقضايانا ومجتمعنا بكل تجليات طموحات أبنائه ومنغصات حاضره ومخاوف الناس من المستقبل، وليس عيبا أن نكون مجتمعا مهموما فكل الشعوب والمجتمعات تعيش منغصاتها وهمومها وقضاياها التي كثيرا ما تفوق ما نحن فيه إن أردنا الدقة، ولكن المشكل هنا أن نستمر مرغمين في السير نحو مساحات التيه بحيث يضيع معنا الناس وتتعطل تبعا لذلك مصالح الوطن ويفقد الناس والمجتمع بسبب ضياعنا الكثير من وحدتهم والكثير من جهودهم وطاقاتهم التي هي حاجة ماسة - على الدوام - إلى الارتقاء بهذا الوطن وشعبه. كذلك سيفقد الناس ثقتهم وإيمانهم في المستقبل وفي القيادات والتيارات كما هو حاصل في الكثير من دولنا العربية وبعض دول الشرق. بطبيعة الحال لن نرضى أن تنحرف مسيرة النضال الوطني عن سكتها ويغوص معها المجتمع في صراعات هامشية وقضايا كثيرا ما جرّته إلى الوراء بفعل غياب العقل والمنطق السويين لدى نخب سياسية ودينية وثقافية واقتصادية أيضا.
هنا نقف لكي نطالب بالتأسيس لفهم جديد لطبيعة الصراع وحجم الصراع وشخوص الصراع وأدوات الصراع وآفاق الصراع وتداعياته، ومعه نتوقف لنتفهم شعبنا والسلطة السياسية ومنظومة عملنا الاجتماعي وثقافتنا الوطنية وتقاليد شعبنا على اعتبار أننا جزء من كل ذلك، فالوعي بأهمية وجود صراع اجتماعي يجب أن ينبع من داخلنا بعيدا عن أن يكون ذلك بفعل إملاءات فوقية، فتلك طبيعة المجتمعات وتلك طبائع الشعوب ونحن شعب يتميز كثيرا بوداعة وطموح كبيرين. كذلك علينا - مع كل ذلك - أن نتفهم حجم التأثير والتأثر محليا وإقليميا وحسابات دول الجوار وحسابات نظامنا السياسي وحجم التداعيات الدولية وطبيعة الاستقطابات والمصالح القائمة في هذا المجتمع الصغير وقياس حجم التحديات الشاخصة أمامنا، كل ذلك يجب أن يدخل في أهمية التأسيس لفهم وطني غير مأزوم لدى الجميع من دون استثناء. نتفهم مسار وتبلور الوعي المجتمعي وأهمية حضوره، ونتفهم أيضا طبيعة النظام السياسي القائم وطبيعة التيارات المجتمعية بكل تلاوينها ونتفهم معها وضعنا الاقتصادي ومحدودية مواردنا وحاجتنا كدولة صغيرة حاليا إلى دعم خارجي ومساعدات إقليمية، ولكننا يجب أن نضع لكل ذلك حسابات مستقبلية تستطيع أن تقرأ حركة الزمن ببعد بصيرة ووضح وخصوصا من قبل السلطة السياسية التي عليها - كما أعتقد - أن تنفض عنها بشكل سريع دواعي الريبة والشك وتسعى بدأب إلى تعزيز الثقة التي هي بحاجة إليها قبل أن تطالب الآخرين من أطراف الصراع ببلوغها، وبالمناسبة فالأدوات جميعها تقريبا في أيدي السلطة السياسية فقط عليها أن تبدأ في كنس ملفات الماضي ولو بالتدريج ولكن المهم أن تبدأ، فالزمن في عمر الحسابات السياسية كثيرا ما شكل عوامل صعود وتراجع أيضا، فقط على السلطة السياسية أن تمسك العصا من الوسط وأن تعمل على إدارة كل هذا الكم من الصراع بموضوعية وعقلانية تبتعد عن استحضار الماضي والخوف من حضوره. وعليها - أي السلطة السياسية - أن تفهم بأن لكل فعل ردات فعل. ولتكن ردات الفعل هذه بالإيجاب وهي من يستطيع أن يقرر سلفا حجم وتوعية ردات الفعل تلك، ولنتذكر كل ذلك الزخم الشعبي الذي تداعى كالنهر الجارف مع بزوغ ميثاق العمل الوطني، إذ رأى الناس معه في حينه أملا في نهاية الطريق الوعر والشائك وتنادوا جميعهم للإمساك به، كانت تلك مبادرة شجاعة استدعتها إرادة ملكية وشعبية جارفة كان لزاما على السلطة السياسية أن تبقي جذوتها مشتعلة لو أنها عملت على مواصلة كل ذلك الفعل الإيجابي بفتحها ملفات مطلبية ومعيشية وحقوقية عطلت عقودا طويلة من دون حلول ومازالت تشكل هما ضاغطا على عقل ودوائر القرار مثلما هي كذلك على عقل وإرادة الشعب. والسؤال هنا: لماذا توقف كل ذلك الزخم الهادر باتجاه إحداث نقلات نوعية في مسيرة هذا الشعب؟ وأنا أعتقد أنه لم يحدث توقف بالمعنى الكامل.
ولكننا نعتقد جازمين بإمكان العودة إلى كل ذلك وربما بشكل أكبر بحكم فهمنا لإخلاص قائد المسيرة والمشروع التحديثي ومراميه وطموحاته التي كثيرا ما أفصح عنها في عدة مناسبات.
في اعتقادي أن وضعنا السياسي المرتبك هو نتاج ثنائية استدعت معها الهروب إلى الأمام حينا والعودة إلى الوراء أحيانا أخرى، فالمجتمع البحريني الذي نسي جروحه في خضم تلك التوجهات الإصلاحية كان لديه الاستعداد للذهاب بعيدا في مشروع جلالة الملك ومازال كذلك، ولكنه يبقى في حال بحث دؤوب عن كيفية الإمساك بنقاط الضوء في جسد المشروع ذاته والتي تتمثل في فهم أولي لا يختلف عليه اثنان في تلبية مطالب معيشية ملحة كتلك التي تتعلق بالفقر والوضع المعيشي الضاغط وتعزيز روح المواطنة وإلغاء مظاهر التمييز والفرز الممقوتين والكثير من القضايا اليومية الضاغطة كالبطالة واستشراء الفساد بالإضافة إلى قضية خلقتها بشكل مباشر انعدام الثقة ربما، والتي تتمثل في قضية التجنيس السياسي التي تحظى بشبه إجماع شعبي بشأن أهمية وضع حد لها سريعا. وعلى الطرف الآخر نجد أن السلطة السياسية لا تبدي مرونة أو تطرح حلولا أو حتى تتقدم في التجاوب مع تلك المطالب، بل إن الكثيرين يعتقدون أن أداءها غير مرضٍ بالمرة باتجاه القضايا الرئيسية والحقوقية والدستورية ويؤكدون - ولديهم كل الحق - أن كل ذلك التراجع يجب أن تساءل عنه السلطة السياسية وليس قوى المعارضة بكل تلاوينها!
وعلى الطرف الآخر نجد أن أداء تيارات المعارضة يتسم بكثير من الإرباك وغياب لغة التشارك في صوغ رؤى وطنية ترتقي بأداء المعارضة أولا وتضغط إيجابا لو تحقق ذلك بالارتقاء بأداء السلطة السياسية أيضا، إذ تصر قوى المعارضة على العودة أحيانا كثيرة إلى تأكيد تأزمها الذي حسبناها أنها تجاوزته بفعل ما هو متاح من حرية نسبية وإمكان الالتقاء والتشاور بينها كأطراف وبينها مجتمعة وبين السلطة السياسية كذلك. وأيضا نعود لنؤكد تفهمنا لطبيعة المرحلة الانتقالية التي نعيش فصولها، ونتفهم أيضا أن تنخلق بؤر تأزم هنا وبوادر انفراج هناك، ولكن في المحصلة يبقى الضغط الشعبي على طرفي الصراع (الحكومة وقوى المعارضة) واضحا ولكنه من غير المقبول أن يبقى مراوحا متراجعا ومتشككا إلى ما لا نهاية، وخصوصا مع قيام مؤسسات دستورية وحقوقية بالإمكان تعضيدها وفهم طبيعة الأجواء التي تعمل فيها، وأهمية التأسيس لاحترامها ليس فقط لأننا نحب ونكره وإنما لترسيخ دور المؤسسات في حياتنا السياسية أولا ومن ثم الارتقاء في كيفية تعامل كل من الحكومة وقوى المجتمع مع تلك المؤسسات وخصوصا تلك التي تمتلك صفاتها التمثيلية على اعتبار أنها مؤسسات منتخبة وشعبية كالمجلس النيابي والمجالس البلدية إذ يستدعيان تعاونا رسميا وشعبيا أكبر.
على الحكومة أن تبدأ سريعا في التجاوب مع الملفات الكبرى كالفقر والبطالة والفساد والتمييز والتجنيس ومن دون أن تبدي ترددا لأن طبيعة تلك الملفات أنها متفجرة وذات انعكاسات لا يمكن أن تحسب بدقة وبالتالي فلا يمكننا أن نستقرأ حجم ردات الفعل الشعبي تجاهها في حال إهمالها، وأعتقد جازما أن إعطاء الضوء الأخضر في البدء لحلحلتها ولو بالتدريج سيفضي إلى ارتياح شعبي وحتى رسمي، فقط يجب أن تكون هناك أفعال تقرن بالأقوال وتحترم معها إرادة الناس وضغوط الزمن وإرهاصات الحراك الاجتماعي، وبالمناسبة فالناس لدينا تحلم بشكل يومي بيوم آخر جميل كذلك الذي انبثق معه عهد الإصلاح ولكنه هذه المرة يجب أن يكون مغايرا على هيئة أفعال تُلمس بحيث يتحسسها رجل الشارع قبل رجل السياسة ويطمئن لها المغبون قبل المسئول.
ولابد لنا - شعبا وحكومة - من البدء سريعا في عمل سياسي غير مأزوم يتفهم حاجات الناس وحجم آمالهم وينظر بثقة نحو الآخر ونحو المستقبل، على أن يصاغ بشراكة وطنية تحتمل جميع الفرقاء الحلفاء وكل الخيرين بمن فيهم الحكومة نفسها، وليكن على هيئة مشروع إنقاذ وطني يجيد قراءة الحاضر ويفهم طبيعة الصراع وأدواته والقوى الطاردة والجاذبة فيه، ويستطيع أن يضع حدا لمعاناتنا جراء عمل سياسي لم يستطع حتى الآن أن يرتقي ليكسب ثقة الناس ويحمي مجتمعنا من عوامل الفرقة والتشرذم، بل إنه ربما تسبب من دون أن يقصد في زيادة عدم الثقة لدى الناس والتي علينا أن نعيدها ونبني عليها للمستقبل متمنطقين بوحدتنا الوطنية وخدمة أبناء شعبنا بعيدا عن حسابات الماضي ومخاوف الارتداد إلى الوراء، ونحن في هذا نعول كثيرا على إرادة شعبنا وإخلاص مليكنا وبكل ما نختزنه من حب لهذا الوطن وأهله
العدد 431 - الإثنين 10 نوفمبر 2003م الموافق 15 رمضان 1424هـ