بعد المسلسلات المتشابهة تقريبا، والبرامج الضاحكة معظمها هازلة إذ لا يوجد بها نص أو مضمون غير محاولة الضحك على مخلوقات الله، نجد مسارين آخرين يشبعان المتلقي العربي جهلا في رمضان من خلال ما يشاهد، بل ومحاولة ملحة على تعويده على الإدمان السطحي، وهما برامج المسابقات لا يعرف أحد على وجه الدقة دوافع عرضها بهذه الكثرة حتى الآن، غير اللعب على الشراهة الإنسانية في الغنى الفجائي والكبير والسريع، وبرامج أخرى يسميها مقدموها برامج دينية، وفي كثير منها تجهيل للمتلقي بدينه أكثر من تنويره.
والسؤال كيف يستغرب البعض أن نرى كل هؤلاء المتعصبين بيننا الذين يحملون السلاح ويكفرون المجتمع ويروعون الآمنين، ولا يربط ذلك في الوقت نفسه بتلك البرامج التي تقدم لنا يوميا على أنها «برامج دينية» وهي برامج توسع قاعدة التعصب بين ظهرانينا، وتجعل من شبابنا لقمة سائغة لكل من يتصدر لتقديم تفسير يناسبه في وقت (كثير من النصوص تركت ظنية الدلالة و ظنية الثبوت، رحمة من رب العالمين بعباده) يأتي من يقطع بتفسيرها للجمهور وكأنه المفوض الوحيد في تفسيرها.
الطمع التجاري ربما يكون أحد أسباب هذا الإسفاف في معظم البرامج التلفزيونية، وهو قد يكون مبررا بسبب هذا السباق المحموم لاستقطاب المشاهد لأغراض إعلانية في الأساس وربما سياسية بعد ذلك، ولكنه في الوقت نفسه يقدم للمشاهد العربي، وهو في كثرته مُقل في الإطلاع على مصادر أخرى للمعلومات، ولم يُجهز بجهاز مناعة ثقافي مناسب يستطيع من خلاله أن يفرز الغث من السمين، فيقع في حبائل تلك التفسيرات التي ترتفع فيها نبرة صوت المتحدث صعودا وهبوطا، يُغلظ في الصوت ويرقق فيه، متى ما أراد، من اجل شد انتباه المشاهد المسكين وإقناعه بوسائل شبه درامية، بأن ما يقوله هو الحق الذي لا جدال فيه.
إن الكثير من هذه البرامج يقدمها غير متخصصين فيما يدعون أنهم يعرفونه، كما ازعم أن كثيرا من هؤلاء قد شدهم الكسب السريع و المال المتوافر المرصود لمثل هذه البرامج من المحطات التلفزيونية المتنافسة، أو على الأقل طلب الشهرة والصدارة، قبل أن تستهويهم «الدعوة»، وإلا فأين أولئك الذين تبرعوا منهم علنا بدخلهم المجزي من هذه البرامج، لمؤسسات خيرية تعنى بالفقراء والمحتاجين تدريسا أو تطبيبا أو تعليما؟
لمثل هؤلاء الكثير من المريدين البسطاء والمؤمنين بما يقولونه، وقد شاهدت مرة طابورا طويلا في إحدى المؤسسات العامة يقف صفا للسلام على ذلك «الشيخ» الذي يظهر في إحدى محطات التلفزيون مخاطبا الجمهور بما يدعي انه يفهمه، وكان ذلك السلام فيه من الخشوع والتبرك ما هو ظاهر بين، واستقبله «الداعية» بابتسامة تنم عن نصر مبين!
المسئول عن مثل ذلك النزيف في توجهات الرأي العام ليس ذلك الداعية بشخصه، فهو مثل كثيرين صاحب صنعة، أجاد تزيينها من الخارج، فأقبل عليه جمهور متعطش للتلقي، فلا مصدر له غير هذا المصدر السهل، وليس المهم ماذا يفهم أو ماذا يُلقن، إنما المسئول عن هذا في غالبية الأحيان هم اؤلئك النفر من متخذي القرار في محطات تلفزيونية مختلفة، إما رضوخا لما يعتقدون أن الجمهور يريده، أو تقية من نقد ولوم يوجه إليهم، أو في حالات كثيرة عبارة عن جهل منهم بما يقدم للناس، تحت مظلة النصيحة والورع.
حقيقة الأمر أن لا أحد يريد أن يمنع القول والحديث، لانه منع يأتي بضرر أكثر من منفعة، ولكن المعقول أن تواجه هذه البرامج ببرامج أخرى تنير الطريق بالحق للمتلقي، أو نجعل من هذه البرامج برامج حوارية تفيد السامع والمشاهد في دنياه وآخرته، تتضمن الرأي والرأي الآخر.
من البرامج التي لفتت نظري أخيرا، قول أحدهم وقد تصدى للتفسير، فقال إن أهل الجنة يأخذون إليها معهم «المشيئة» ثم أردف مباشرة بقوله إن الرجال لهم الحور العين في الجنة ويسألوني وماذا للنساء؟ وبعد توقف لالتقاط الأنفاس، على طريقة تأخير الجواب للتشويق، قال إن للنساء «المشيئة» لهم ما يشاءون ويشتهون من كل شيء وأي شيء! لقد تجاوز صاحبنا المعاني الكبيرة في الحب والخير والعدل في الإسلام، ليبحث عما تريد النساء وتشتهي! ومثال آخر صارخ عندما صرح آخر بالقول إن «الاستهانة بالعلماء استهانة بالشريعة» وكأن في الإسلام معصوما غير نبي الله (ص).
هذه مجموعة من الأمثلة التي يطل منها البعض على الناس من تلك الشاشة الصغيرة في رمضان، رجال فوضوا أنفسهم بالإفتاء في أي شيء وكل شيء، كل ذلك تحت تسمية «التوعية الدينية» وهي في حقيقة الأمر أي شيء إلا أن تدعى «توعية».
في المجتمعات الأخرى يوجد مثل هذا، فهناك برامج في الغرب، وخصوصا في الولايات المتحدة صباح يوم الأحد، نرى فيها «الداعية» وقد تسلح بلغة بليغة، واستخدم مؤثراته الصوتية والحركية للتأثير على المستمعين والمشاهدين، هذه البدعة وصلت إلينا مع اتساع استخدام التلفزيون في بلادنا العربية، في الوقت الذي يعبأ الكثيرون ضد البدع المختلفة المقبلة من أميركا، يستخدمون الطريقة والأسلوب نفسه في الترويج لبضاعتهم المستهينة بعقل الأكثرية.
الفرق بالطبع أن في تلك المجتمعات المفتوحة يقابل الرأي بالرأي والحجة بالحجة في فضاء مفتوح، أما لدينا فيحتكر الحقيقة بضعة نفر من الناس، ويروج لهم على أنهم يملكون الحقيقة المطلقة في بيئة ثقافية كما قلت غير محصنة للتصدي عقليا للخرافة.
ونخرج من إعلامنا في رمضان، وكثير منا أكثر جهلا بما يحيط به بسبب تلك السياسات، ثم يتساءل بعضنا من أين جاء كل هذا التعصب لدى شبابنا؟ وكيف خرجوا على المجتمع بمثل هذا الخروج المناوئ للعقل؟
ولو دققنا في الأمر، لوجدنا أن ذلك الخروج هو من صنع أيدينا، وقد مهدت له هذه البرامج الفضائية المتكاثرة من حولنا. وكثيرا ما تردد أن الإعلام سلاح يستخدم في الدفاع كما يستخدم في التعبئة والهجوم، وان وقع في أيد لها أغراض إرهابية تحول إلى سلاح إرهاب رد إلى المجتمع قنابل ورصاصا وشقاقا.
المحطات التلفزيونية في عالمنا العربي لا تخرج عن اثنين، محطات ترعاها وتمولها دولة أو محطات تجارية، فالدولة لا تريد أو لا ترغب في توعية حقيقية نتيجة الضغوط المختلفة التي تواجهها، ومحطات تجارية ترى جمهورا يريد ما تعود عليه فتعطيه ذلك، طمعا في إقناع المعلن بتفوقها، ولم تنشأ لدينا بعد المحطات التلفزيونية الأهلية التي تسعي في بلدان أخرى إلى تقديم ما يفيد الجمهور، ويرقى بذوقه ويعلمه بالحقيقة. مثل هذه المؤسسات التي يسهر عليها نفر مستقل همها الأول هو ترقية وعي المشاهد، كي يساهم بفهم وموضوعية بما يحيط به في هذا العالم وبتقدم مجتمعه.
وسنظل نشهد في أيام رمضاننا الكريم كل ذلك السلبي من البرامج، ويبرر البعض أن ذاك ما يرغب فيه المشاهد، وهو قول لا يستند إلى حقيقة علمية وغير دقيق، بدليل انصراف الجمهور عن الغث واحتفائه بالأفضل.
إنما أحد التفسيرات في استمرار هذه المسيرة أن لا مشروع لدينا لا في مشروعاتنا التجارية، و لا عند متخذي القرار في بلداننا، فالمشروع الحضاري للخروج من الدائرة المغلقة، التي تحبذ الأكثرية العاقلة الخروج منها لم يصل بعد إلى الآذان
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 431 - الإثنين 10 نوفمبر 2003م الموافق 15 رمضان 1424هـ