أظهرت دراسة أعدها مركز البحرين للدراسات والبحوث بتكليف من المؤسسة العامة للشباب والرياضة أن أسباب الشغب الذي وقع ليلة رأس السنة الميلادية في شارع المعارض تعود إلى مجموعة من «العوامل المتكاملة والمتداخلة فيما بينها، فالسلوك اللاسويّ يخفي وراءه أحيانا أشكالا من الصراع والإحباط، ما قد تخفي أيضا نوعا من النقص في الكثير من الحاجات ذات الطبيعة النفسية أو الاجتماعية أو المادية». في حلقة أمس تمت الاشارة إلى أهمية الدراسة، وأوضاع المتهمين (20 مراهقا وشابا)، وابرز ملامح شخصياتهم وهذه الحلقة الثانية.
حين سُئل المتهمون في الحوادث عن الأسباب التي تدفع بالمراهقين إلى الاعتداء على الغير والممتلكات، أرجع 75 في المئة منهم ذلك إلى الفشل الدراسي والبطالة والفراغ، والشعور بالملل، والتفكك الأسري والإهمال وعدم الرضا بالوضع، والفقر والشعور بالظلم. واعتبر 60 في المئة من العينة التجريبية أن أسباب الشغب تعود إلى عدم الرضا عن تصرفات بعض المواطنين الخليجيين، وأكد 58 في المئة أن العنف يعود إلى غياب الردع والتساهل في تطبيق القانون.
تشير الدراسة إلى أن المفحوصين «لا يستحضرون صورة الأب في المواقف التي تستدعي ذلك: ما يدل على الغياب النفسي في شعورهم، كما لوحظ أنهم لا يستبدلون صورة الأب بصورة المدرس الذي ينبغي أن يحل محل الأب في دوره التربوي. فالمدرسون بدورهم لا يحتلون أية مكانة في نفسية المفحوصين. فلم يرد ذكرهم في الصورة الإسقاطية المخصصة لذلك».
كما تظهر النتائج «عدم وجود الرؤية الواضحة والسليمة بخصوص مفهوم الأسرة السوية ووظائفها الأساسية... ذلك أن معظم استباناتهم تشير إلى تفشي الصراعات والخلافات الأسرية والخيانة الزوجية». كما تظهر الدراسة أن 50 في المئة من العينة ينظرون نظرة سلبية إلى المقررات والبرامج الدراسية، و25 في المئة أبدى اتجاه إيجابيا، بينما لم يبد 25 في المئة منهم رأيه في الموضوع.
الجهات المقصّرة
أوضحت الاستجابات أن الجهات المقصرة في حق الشباب والمراهقين - بحسب رأي المتهمين في الحوادث - هي وزارتا العمل والداخلية بنسبة 70 في المئة، وزارة الصحة بنسبة 55 في المئة، وزارتا الإعلام والتربية والمؤسسة العامة للشباب والرياضة بنسبة 50 في المئة، والقطاع الخاص بنسبة 30 في المئة. أما أوجه التقصير كما ذكرها أفراد العينة، فتتمثل في «غياب برامج جيدة ومفيدة وإعلام خاص موجه الى الشباب، وغياب الترفيه والأنشطة التربوية الموازية في برامج ومقررات وزارة التربية والتعليم، وتقصير وزارة العمل في تشغيل الشباب العاطل، وعدم مساهمة القطاع الخاص في تشغيل الشباب البحريني العاطل واستبداله بالعمالة الأجنبية، وعدم تشجيع المؤسسة العامة للشباب والرياضة للطاقات الشابة في شتى المجالات واقتصارها على تشجيع فئات خاصة ومحدودة، فضلا عن عدم تعميم أنديتها على كل مناطق المملكة».
الانتحار والقدوة
أكد 8 من المتهمين (أي 40 في المئة من العينة) تفكيرهم في الانتحار فعلا، «كما أكد الذين فكروا في الانتحار أن تفكيركم ازداد وتقوى بعد حوادث شارع المعارض ودخولهم السجن،»، مفسرين ذلك «بانسداد قنوات التشغيل، والاستسلام لليأس». وقال أحد المتهمين إنه لا يفكر في الانتحار، ولكن لديه رغبة في مغادرة البحرين، بعدما حصل له في شارع المعارض؛ لأنه «فقد الأمل في إصلاح الوضع في البحرين». وحين سئل المتهمون في الحوادث عن الشخصية التي تتخذ مثلا أعلى وقدوة في الحياة، كانت الإجابة كالآتي «الأب، الأم، الأبوان، أحد الأقارب، الحق، أهل البيت، السيدحسن نصرالله، السيدمحمد حسين فضل الله، الشيخ عبدالأمير الجمري، الشيخ علي سلمان، الإمام الخميني، حزب الله، المغني علي بحر، وبوب مارلي».
يقظة ضمير أم عدوان
في جانب من الدراسة إشارة إلى إحدى «الظواهر اللافتة للانتباه، فعلى رغم تعدد مظاهر السلوك العدواني لدى أفراد عينة الدراسة تلاحظ لديها مشاعر نفسية مهمة تجعلها تشعر بالذنب عما صدر منها من سلوك غير اجتماعي وغير حضاري، وذلك بنسبة 55 في المئة من أفراد العينة... وأوضح المظاهر على ذلك أن معظمهم ينهي قصته المتسمة بالعنف والعدوان بوصول الجاني إلى السجن ووقوعه في قبضة العدالة. (أجاب المفحوصون بأن العقوبات المناسبة لمن يقوم بالاعتداء على الغير هي السجن المؤبد أو الغرامة المالية). فرجال الأمن أو الشرطة (أي الضمير ومحاسبة الذات) - كما يرد على لسانهم - ساهرون على الأمن، وهم بالمرصاد لكل من تسول له نفسه إيذاء الغير وتخريب ممتلكاته. بل إن أحد المفحوصين استجاب بما يفيد بأنه لا يحق للمظلوم أخذ حقه بنفسه، وإنما هناك سلطة تقوم بهذه المهمة بالنيابة عنه (12 حالة). كما استجاب آخر بما يفيد بأن الفقر لا يمكن أن يكون ذريعة تدفع أي شخص مهما كان إلى الإجرام والاعتداء على الغير، وكأنه يقدم تفسيرا لسلوكه الذي تورط فيه». ولكن البحث يستدرك ليقول: «قد نفترض أن قسوة الأنا وشدتها لدى عينة الدراسة مرجعها قد لا يفسر بوجود ضمير حي لديهم، بقدر ما يفسر على أنه شكل آخر من أشكال العدوان الموجه نحو الذات. كما يمكن افتراض أن السلوك العدواني الذي صدر عن عينة الدراسة جعلها تندم وتشعر بتميزها عن أفراد المجتمع الذي تستنكر كل فئاته الاجتماعية سلوكهم، وتنظر إليهم نظرة تعتبر سلوكهم شاذا، وغير متوافق، ولم تتعود بيئتهم على مثله، ما جعلهم يحسون في قرارة أنفسهم بالندم».
المشكلات
عدّد المتهمون في الحوادث المشكلات التي يعاني منها المراهقون والشباب والتي تتعلق بالذات والمحيط الاجتماعي مثل فقدان الثقة بالنفس، والشعور بالحقد تجاه العمال الأجانب الذي يفضل أرباب العمل تشغيلهم مكان العمالة الوطنية، وتعاطي المخدرات لملء الفراغ... إلخ.
كما ذكر المفحوصون مشكلات ذات طابع اجتماعي مثل «البطالة، والفراغ، وقلة الأجور، وتفضيل الأجانب في فرص التشغيل، ومشكلات تعلق بالسكن، ووجود نزاعات طائفية، ووجود الخمور في البلاد وبيعها في بعض المحلات التجارية، وكثرة الفنادق وأماكن اللهو التي تفسد أخلاق الشباب». إضافة إلى مشكلات تربوية وتعليمية مثل الفشل الدراسي، الانقطاع عن الدراسة، عدم القدرة على مواصلة الدراسة الجامعية بسبب كلفتها الباهظة، وعدم ملاءمة البرامج الدراسية لحاجات سوق العمل، فضلا عن مشكلات أسرية، وأخرى ناتجة عن الاقتران برفاق السوء. واقترح المفحوصون حلولا لهذه المشكلات، من بينها إصلاح التعليم، جعل المدرسين قدوة حسنة، تجنب العقاب البدني في المدارس، (ورد في الدراسة أن أحد المفحوصين قال ان مدرسا ضرب طالبا حتى الموت من دون أن ينال هذا المدارس جزاءه)، ملء فراغ الشباب، تكثيف حملات التوعية، «تقديم خدمات إسكانية لأفراد المجتمع، تشغيل الشباب البحريني وإعطائه حقه في بحرينه ووطنه، وعدم التفرقة بين السني والشيعي في تولي الوظائف».
من جهتهم، قال أولياء أمور المتهمين ان أبناءهم يعانون من مشكلات كثيرة، واقترحوا حلولا من بينها عدم فصل الطالب الراسب لمدة سنتين متتاليتين، وضرورة اهتمام وزارة التربية والتعليم بالمرحلة الإعدادية بما يتناسب وخصوصية مرحلة المراهقة. وقال أولياء الأمور انهم لاحظوا على أبنائهم «تغيرات إيجابية بعد مرورهم بتلك التجربة القاسية، فقد أصبحوا أكثر انضباطا وشعورا بالمسئولية وأكثر إظهارا للحذر». كما أورد البحث المشكلات التي يعاني منها الشباب والمراهقين والحلول لذلك - من وجهة نظر العينة الضابطة التي لم تشترك في الحوادث - ولكن العرض هنا ركز على وجهة نظر المفحوصين. وكل الأسئلة التي وجهت إلى المتهمين في الحوادث وجهت أيضا إلى العينة الضابطة. وفي إحدى الاستجابات أظهر أفراد العينة الضابطة تعاطفا بنسبة 60 في المئة مع مرتكبي الشعب، موضحين أن ارتكاب الشغب يعود إلى «الفراغ القاتل، فلو ان المجتمع قدر المتهمين حق قدرهم، ووفر لهم فرص العمل المناسب، ما كانوا سيندفعون الى ارتكاب ما ارتكبوه».
الخلاصة
تخلص الدراسة إلى أن أفراد العينة التجريبية (المتهمون) «يعيشون أزمة داخلية واضحة، تترجمها جملة من الاضطرابات السلوكية التي ظهرت بجلاء في مختلف استجاباتهم على أدوات القياس النفسي. إذ ظهر لدى معظمهم الشعور بالخوف من المستقبل، والقلق، والحصار النفسي، واليأس، والضياع، والتمرد، ما يوضح افتقار هؤلاء المرهقين والشباب إلى أرضية آمنة يرتكزون عليها بثقة وأمان، لإتمام وبناء وتعزيز شخصيتهم، بكيفية أكثر توازنا». أما أفراد العينة الضابطة (الذين لم يشتركوا في الحوادث) فتبين استجاباتهم ظهور حاجات ومطالب نمائية أساسية يحتاجون إليها، لاستكمال نموهم وتطور شخصيتهم وبلوغ النضج النفسي والاجتماع، من أهمها الرغبة في إثبات الذات، وتأكيد الوجود، والاعتراف بشخصيتهم من قبل الأفراد والمحيط الأسري والمدرسي.
وتحذر الدراسة من هذا الشعور، وتقول: «على رغم ان التعبير عن هذه الرغبات والحاجات لدى أفراد العينة الضابطة لا يتخذ أسلوب التعبير المتسم بالعنف، فإنه مظهر من مظاهر الإحباط الذي يخفي وراءه مقومات وعوامل قد يؤدي ترسبها إلى التعبير عنها بأساليب وطرق غير سوية (مثل) الحقد، والكراهية الاجتماعية، والإدمان، والاعتداء، والعنف... إلخ».
إن أفراد العينتين - بحسب الدراسة - يعانون من عدم وجود فرص كافية للتعبير عن الرأي إذ انتقدوا وسائل الإعلام، وأشاروا إلى أنهم لا يجدون في بعض المؤسسات المدرسية الأطر المتسمة بالكفاءة والقادرة على فهمهم، لتجنب المنزلقات والانحراف. وخصوصا أن المعلمين لا يحتلون المكانة اللائقة في نفوس الطلاب.
أما المؤسسة العامة للشباب والرياضة فإنها - كما يقول الشباب - «عاجزة» عن تلبية الحاجات، «لكونها تعنى بالرياضة دون سواها من الأنشطة، ولا تقوم إلا بتشجيع فئة محدودة من الشباب». وتستدرك الدراسة موضحة بان ذلك «لا يجعلنا نتسرع ونستنتج بأن غالبية المراهقين والشباب متهورون... كما لا يجوز في الوقت ذاته التساهل في ردع وعقاب كل العابثين بالمكتسبات الوطنية، التي ينبغي حمايتها في دولة المؤسسات».
التوصيات
توصي الدراسة بمعالجة قضايا الشباب بنظرة «شاملة ومتوازنة»، وفق منطق ينظر إلى الشباب على أنهم «مساهمون حقيقيون» في إيجاد الحلول الملائمة لمشكلاتهم ما يستدعي ضرورة تشجيع الشباب على المشاركة في جميع مناحي الحياة، من دون تهميش أو تحجيم لدورهم ومكانتهم. «فليس الشباب مجرد طلاب وأيد عاملة، وإنما ينبغي التوقف طويلا عند دورهم في الحياة العامة للمجتمع. وهذا يقتضي الاقتناع بأن الحل الأمثل للمشكلات التي تنتابهم، يبدأ من خلال إشراكهم وإدماجهم في عملية التنمية، والإدارة السياسية والديمقراطية». ودعت الدراسة وزارتا التربية والتعليم والصحة وقطاعات الرياضة والعمل والثقافة والإعلام إلى تطوير برامجها لتساعد على إدماج المراهقين والشباب في المجتمع. كما أوصت الدراسة بإنشاء مرصد وطني للطفولة والشباب في مركز البحرين للدراسات والبحوث تكون مهامه الأساسية «رصد التحولات والتغيرات النفسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، ودراسة أثرها في بلورة الأفكار وتكوين الاتجاهات والقيم في صفوف المراهقين والشباب، وإعداد دراسات وأبحاث علمية استشرافية لأوضاع الطفولة والشباب في المجتمع، لتشكل رصيدا وقاعدة من المعطيات العلمية، تعتمد من قبل الجهات المختصة في بلورة الاستراتيجيات ووضع السياسات وتفعيل الخطط الإنمائية، بشكل يساعد على استباق الحوادث والتصدي لها في الوقت المناسب، وتستلزم هيكلة المرصد أن تتكون من اختصاصيين في مجالات اجتماعية ونفسية وصحية وتربوية واقتصادية وثقافية وقانونية، واختصاصيين في الدراسات المستقبلية قصد تناول مختلف القضايا وفق رؤية شمولية»
العدد 430 - الأحد 09 نوفمبر 2003م الموافق 14 رمضان 1424هـ