الحديث عن الانقسام العربي ليس جديدا، وقد ألف الشارع العربي هذا الانقسام بين الحكام، لكنه - أي الانقسام - زاد هذه الأيام بصورة لافتة للنظر، فهناك انقسام بين المثقفين والسياسيين والإعلاميين وسواهم، ولايزال هذا الانقسام واضحا حتى كتابة هذا المقال...
الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى وصف الانقسام العربي بأنه محزن ومخزٍ وأنه لايزال واقعا ملموسا وأن مؤتمر الكويت لم يستطع القضاء عليه... فإذا كان هذا كلام الأمين مع حرصه على تخفيف الإعلام عن الانقسام فكيف يكون واقع الحال؟
انقسم الحكام على مواقف «حماس» من هذه الحرب، فالبعض حملها كامل المسئولية عنها، وبالتالي فهي المسئولة عن كل المآسي التي حدثت في غزة! هذا الاعتقاد جعل - هذا البعض - يتمنى هزيمة «حماس» - كما قال الشيخ القرضاوي - وبالتالي فقد حرص أصحاب هذا الاتجاه على إفشال كل ما يعتقدون أنه قد يخدم سياسيا أو اجتماعيا...
الاتجاه الآخر وقفوا مع «حماس» وعبروا عن شرعية أفعالها، وأن الصهاينة هم المعتدون، وأن الحصار يجب ان يزول سريعا، وأن إعمار غزة يجب أن يبدأ سريعا وبإشراف الغزاويين...
بعض الإعلاميين والكتاب وقفوا من غزة كما وقف الصهاينة منها، لا فرق على الإطلاق، بل ان بعضهم كان أسوأ من الصهاينة بكثير!
واحد من هؤلاء - كويتي - طالب الصهاينة بسحق المقاتلين وإبادتهم وتلقينهم درسا لن يسنوه إلى الأبد! كما قال هذا «المعتوه»: إن فلسطين حق لبني «إسرائيل»، وأنها أرض المعياد، وأنه لا حق للفلسطينيين فيها!
بعض الكتاب السعوديين هاجموا حماس بشدة، وبشروا بهزيمتها، وحملوها كل المسئولية عن الدمار الذي لحق بغزة، وطالبوها بعدم المقاومة!
هؤلاء الكتاب - كما أعتقد - تجردوا من كل الأحاسيس البشرية، وقبل ذلك تجردوا من العقل البشري المتزن، وسلموا عقولهم لليهود يفعلوا بها ما يشاؤون، ولهذا كانت «إسرائيل» تحتفي بمقالاتهم وتنشرها على موقع وزارة خارجيتها... هم يريدون الخطوة عندها وها هي قد حصلت فهنيئا لهم!
لكن المفرح أن هؤلاء شرذمة قليلة لا قيمة لهم لأن الغالبية العظمى من علماء الأمة ومثقفيها أدوا واجبهم بصورة مشرفة، فوقفوا مع شرفاء الأمة وشجعوهم على مساندة إخوانهم في غزة، كما أنهم خاطبوا حكام المسلمين وطالبوهم بالقيام بواجبهم الحق وأن يكونوا مع شعوبهم لا ضدها...
وبهذه المناسبة كنت أتمنى أن يقول - العلماء الذين قابلوا عددا من الحكام ماذا قالوا لهم؟ وبماذا أجابوهم، لكي يعرف الناس حقيقة هؤلاء الحكام...
وأتمنى كذلك أن لا يقف هؤلاء العلماء وكذلك كل الذين ساندوا غزة عن المضي في مطالبتهم برفع الحصار عن غزة، وإعمارها، وتوحيد الجهود لإصلاح ذات البين على أسس سليمة تمنع الاختلاف مستقبلا...
وسائل الإعلام العربية كانت مثل المثقفين، فغالبيتها كانت مع «حماس» وأهالي غزة، تنقل الحدث بحيادية، وتعرضه بصورة جيدة، قنوات أخرى كانت لاهية في غيها مستمرة في عرض الغناء الذي كانت تعرضه طوال العام، وإذا عرضت بعضها أخبار الجهاد في غزة في عرضته بنفس «عبري» وكأنها قناة إسرائيلية ولكن بلغة عربية!
كثرة القمم العربية كانت أحد مظاهر الانقسام بين الحكام، فهذا يقف مع هذه القمة وذاك يقف ضدها، لا قيمة لما يحدث في غزة من قتل وتدمير، والوقت عندهم لا يعني الكثير... وانهت القمم، وبقيت علاقة البعض مع «إسرائيل» كما هي، وبقيت المعابر مغلقة، واختلفوا على طريقة توزيع المساعدات التي اتفقوا أنها مخصصة لاعمار غزة... وعادوا وبقبي الاختلاف بينهم واضحا...
الذين اتهموا حماس هم الذين اتهموا حزب الله، والاتهامات التي وجهت لحماس هي نفسها التي وجهت لحزب الله، والذين اتهموا حماس بالعمالة لإيران هم أنفسهم الذين اتهموا حزب الله بالعمالة لإيران، والذين قالوا إن حزب الله لن ينتصر هم الذين قالوا إن حماس قد انهزمت... وهكذا...
ثبت - بعد ذلك - حزب الله قد انتصر وباعتراف الصهاينة، وربما يعترفون - ولو بحياء شديد - أن حماس قد انتصرت عليهم لأنهم لم يحققوا أي شيء من حربهم ضدها، وانهم خسروا بعض أصدقائهم، كما خسروا بعض سمعتهم...
أعتقد أن الصهاينة لو قالوا كل ذلك فإن كل الذين وقفوا ضدها لن يتغيروا لأنهم لا يبحثون عن الحقيقة، بل يمثلون الاتجاه الآخر الصهيوني...
غزة بقيت صامدة، لم تنقسم على نفسها، ولم يتمرد أهلها على حماس، ولم يرفع أهلها راية الاستلام على رغم كل الدمار الهائل الذي لحق بهم وعلى رغم مئات القتلى والجرحى الذي عانوا منه...
أهل غزة كانوا يعرفون أعداءهم بوضوح، وكانوا يعرفون أهدافهم بوضوح، وكانوا يقاتلون دفاعا عن وجودهم وحريتهم، ولهذا صمدوا وصبروا، وبقي الجميع على قلب واحد...
العرب انقسوا، والغزاويون صمدوا واتحدوا... وأهداف كل فريق كانت وراء مواقفه...
وحدة العرب غاية نحبها وندعوا إليها... لكننا نريدها وحدة حقيقية صادقة، أما إذا لم نكن كذلك فالانقسام الواضح والمعلن والمعروف سببه شيء أعتقد أهميته حتى يختفي النفاق ويظهر كل فريق على حقيقته، وليعرف الشارع العربي الحقيقة كما هي ويتخذ مواقفه على ما يراه حقا
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 2335 - الإثنين 26 يناير 2009م الموافق 29 محرم 1430هـ