أجمعت العرب والعجم على أن الاختلاف والمخالفة في اللغة تعني أن ينهج كل شخص طريقا مغايرا للآخر في حاله أو في قوله. والخلاف أعم من الضد، لأن كل ضدين مختلفان ولكن ليس كل مختلفين ضدين. وتتسع مقولة الخلاف والاختلاف لتشمل أحيانا المنازعة والجدل والجدال وما إلى ذلك. لكن الاختلاف يبقى سنة كونية لا مناص منها.
وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم (وهو مرجع اجماع العرب والمسلمين قاطبة من حيث البلاغة والبديع والبيان أيا كانت معتقداتهم وانتماءاتهم). في مناسبات كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر عددا من الآيات الكريمة للتأسيس لمقولة ان الاختلاف سنة كونية لا مفر منها، وهي:
«إنكم لفي قول مختلف»، (الذاريات: 8).
«فاختلف الأحزاب من بينهم»، (الزخرف: 65).
«إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة في ما كانوا فيه يختلفون»، (يونس: 93).
«ولايزالون مختلفين»، (هود: 118).
وعلى هذا يمكن القول: إن الخلاف والاختلاف يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الفعل أو الحالة أو الهيئة أو الموقف.
وعليه فإن هذا الاختلاف سيفرز فيما يفرز اختلافا في العقول والمدارك والألسنة والألوان بما هو آية من آيات الخلق المقصودة لغايات يعلمها الله ولحكمة هو أدرى بمكنوناتها، قال تعالى:
«ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم» (الروم:22)، الأمر الذي يؤكد بدوره ان اختلاف الألسنة والألوان والهيئات انما يأتي في إطار وسياق خلق السماوات والأرض أي إعمار الكون ومن عليه وما عليه من رطب ويابس وجامد وحي.
ولك أن تتصور لو أن الأرض خلت من الألوان المختلفة والمتعددة والألسن المتنوعة كيف كان عنصر الجمال فيها؟ وكيف كانت ستؤول إليه حال الحياة البشرية فيها؟ ألم تكن تتحول إلى بركة راكدة لا حياة فيها آسنة تخلو من كل ابداع أو ابتكار؟
لو لم يكن الاختلاف في الخلق لخلت الأرض وما عليها من كل أشكال النشاط والحيوية والاجتهاد والسباق من أجل اكتشاف الكامل الواحد الأحد.
قال تعالى:
«ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم» (هود: 118 - 119).
ولنتأمل روعة الوصف وجمال البيان والحكمة المتعالية فيما بين سطور هذه الآية الكريمة.
- لو شاء الله لرفع الاختلاف نهائيا من على وجه البسيطة. لكنه أراده سنة دائمة.
- الاختلاف قائم مادامت الدنيا قائمة إلا من رحم الله فينجيه من عواقب سوء الاختلاف.
- ولذلك خلقهم، أي ليبين لهم ان الاختلاف جزء من هدف النشأة والتكوين والخلق لأن فيه اختبارا ورحمة.
الاختلاف إذا سنة كونية واعية وهادفة لم تأتِ هكذا من عبث أو فراغ أو فعل بشر جاهل أو أمر باطل والعياذ بالله، بل هو جزء لا يتجزأ من الخلق الهادف إذا التزم به العبد - وأقر قوانينه وآليات حركته - كان ظاهرة إيجابية في المجتمع. نعم قد يتحول إلى مشكلة فقط عندما يتحول إلى نزاع وجدل عقيم وشقاق فتذهب ريح الأفراد والجماعات والأقوام. وتفشل جهودهم ومساعيهم في إعمار الأرض ومن عليها وما عليها وتشيع الحروب والخرائب في الديار والنفوس وذلك سيكون من فعل البشر الذين لم يرعوا أو يتعلموا قانون الخلق والنشور.
أن نقبل بالاختلاف سنة كونية يجعلنا أن نحول الاختلاف إلى أمر محمود ومجال يدفع بنا إلى بذل أفضل ما لدينا من امكانات لتنويع حياتنا التي من حولنا وتزيينها بكل ألوان الفعل والانفعالات الإنسانية، وأن نمنع من تحول التدافع والتنافس الطبيعي المنبثق عن الاختلاف إلى شيء مدمر وظاهرة شريرة ملعونة!
بالمقابل أن نرفض مثل هذا الإقرار يعني اننا نسير عكس اتجاه الريح الطبيعية، وبالتالي تصبح جهودنا عدمية وفاشلة مرتين، مرة عندما نشهد ونلمس بكل جوارحنا بعد جهد جهيد أن وقوفنا عكس اتجاه رياح السنن الكونية أمر غير ممكن ومستحيل، ومرة عندما نحول حياتنا وحياة كل المحيطين بنا إلى جحيم لا يطاق بسبب محاولات قسرية سنضطر إليها لاجبار الجميع ممن هم تحت حيزنا «الاعتباري» للحركة بشكل واحد وأسلوب واحد وهيئة واحدة ومدارك واحدة، الأمر الذي سيدفع إلى نزاع وجدال مدمر وفتنة مشتعلة على الدوام.
وحده القبول بالتنوع والتعدد والإقرار بوجوده إذ هو وكما هو والتعامل معه كأمر محمود وليس فتنة أو مؤامرة هو الطريق الصواب والأنجع للاستمتاع بفن الخلق والنشأة الأولى وتقبل حكمة الموت والنشور.
وهل يعقل أن يأتي الناس إلى هذه الدنيا ويرحلون عنها هكذا عبثا واعتباطا من دون غاية أو هدف ودونما امتحان واختبار، وبلا حساب أو كتاب أو مساءلة؟!
حاشا لله ذلك وهو القائل:
«أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون»، (العنكبوت: 2). إنها فرصة ذهبية لا تأتينا في السنة إلا مرة واحدة، وهي فرصة رمضان الكريم شهر الصيام والصبر والتقوى والتأمل في سنن الله ونعمه واختباراته التي لا تحصى
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 428 - الجمعة 07 نوفمبر 2003م الموافق 12 رمضان 1424هـ