أراد الله أن يكون عندي في النصف الأول من أربعة ارتباطات بأربعة مؤتمرات، الأول عن المرأة والعدالة في الفقه الإسلامي وقانون الأسرة من منظور مقارن شارك فيه رموز دينية من باكستان والهند ومصر، وباحثين في الاجتماع الإسلامي من مصر والولايات المتحدة وإيران والمغرب وكندا وماليزيا. تلاه مؤتمر في بيروت عن المرأة والمال في المجتمع العربي كان معظم الحضور من لبنان بمشاركة من السودان والجزائر ومصر والمغرب، وآخرهم بالقاهرة مرة أخرى عن الحركات الجديدة والتحالفات الديمقراطية باتجاه التغيير، حضره باحثون ونشطاء من أنحاء العالم العربي، وأخيرا لقاء جديد من لقاءات الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي والذي يضم نشطاء للحوار والوحدة الوطنية من بلدان عربية وخاصة مصر ولبنان من السنة والشيعة والمسيحيين بطوائفهم وأيضا الدروز.
كان ما كان في غزة من مذابح وإبادة فكان القلب هناك طوال الوقت، والعقل مشتت بين موضوعات المؤتمرات والسعي لفهم ما يجري في المشهد العربي والفلسطيني في تقاطعهما الكارثي.
لم يكن هناك من مجال للإفلات من الحضور في المؤتمرات الأربع، وما من مجال للإفلات من قبضة فلسطين على العقل والقلب، فكان التركيز صعبا وشاقا في هذين الأسبوعين حتى أنني لم أتحمل حضور مؤتمر المقاومة الذي تزامن مع وجودي في بيروت، ليس فقط لضيق الوقت بل لضيق الصدر وإحساسي أنني لو حضرت زخم المؤتمر الذي جاءه أنصار فلسطين من أنحاء العالم من شتى الجنسيات من باحثين ونشطاء وصحافيين فقد تنهار مقاومتي أنا النفسية لكل هذه الوحشية، وحشية المذابح والحرب الشاملة ضد البشر والحجر والأرض ووحشية الصمت والعجز العربي عن مناصرة فلسطين، اللهم إلا بالكلمات والشعارات والوعد بإعادة الإعمار… مجددا.
لكن النقاشات التي دارت في المؤتمرات الأربع والتي كانت في فترة زمنية مشحونة ومضغوطة فتحت عيني على هذا الكم من المظالم الذي نرزح تحته كما ترزح فلسطين تحت الاحتلال الاستيطاني، فما بين مظالم واقعة على النساء في المجتمع الإسلامي أجمع على مخالفتها للشريعة الباحثون وعلماء الدين الحضور ومنهم مفتي مصر ورئيس المجمع الإسلامي في باكستان وممثل المسلمين في مجلس الدولة الهندي للأقليات وغيرهم وهي مظالم تتحقق بحق المرأة قبل الزواج وأثنائه وبعده، تستند لقوانين بريطانية وفرنسية من بقايا الاحتلال ولا سند لها في مدارس الفقه الإسلامي أو تنشأ من التمسك بمذهب واحد وتجاهل السعة في المذاهب الأخرى، إلى المظالم الواقعة على النساء في مجال الحق في الثروة والعمل وهي المظالم التي حاولت التشريعات معالجتها وخاصة في دول الجزيرة العربية أو إن شئت مجلس التعاون الخليجي تحديدا لكن المجتمعات مازالت تنكرها على المرأة فتاة متعلمة ومهنية متدربة وزوجة لا تعمل في بعض البلاد إلا بإذن الزوج وتحت ولايته أو بإذن الأب الذي يستولي في حالات متنوعة على الدخل لأسباب متعددة، فضلا عن عدم العدل في تعدد الزوجات كما قرر الشرع الذي أباحه وعضل النساء عند الطلاق بالقانون أو بالعرف. زاد الأمر تعقيدا ندوة الحركات الجديدة في العالم العربي التي كشفت عن هذا الكم من المظالم التي تتعرض لها قوى المعارضة من تنكيل وانتهاك لأبسط حقوق الإنسان وسجن ونفي، والتعثر الذي شهدته مسيرة التحول للديمقراطية في الدول الجمهورية وخاصة بتوريث الحكم في نظام وخلافة الملك في نظامين كان بهما مطامح لملكية دستورية ذات أحزاب أكثر فاعلية فإذا الملكية تستقل بقرارات داخلية وخارجية وتتجاهل الأحزاب على محكات العلاقة بـ «إسرائيل» والعلاقة بأوروبا… ومزيد من التوريث قادم في نظم كانت... جمهورية.
أما الألم الأكبر فقد عكسته نقاشات الفريق العربي للحوار والذي تبادلنا فيه هموم وهواجس الفتن الطائفية والتعامل مع الأقليات (حالة البحرين الاستثنائية في مشهد التجنيس المجاني لتغيير النسبة العددية للشيعة لم تدخل في النقاش لغياب حضور أهل الخليج في الفريق حتى الآن).
قديما أنشأ المسلمون الأوائل ديوان المظالم، أما نحن فقد أسميناه وزارة العدل، وأعتقد أن ديوان المظالم أوفق في الوصف، فالعدل في عالمنا العربي يعاني من جفاف وقحط لا يوازيه إلا الإبادة التي يتعرض لها أهل فلسطين في الوحشية، لكنها وحشية هيكلية منظمة بدون دماء ولا قنابل فوسفورية… مظالم كبرى تحت غطاء التقاليد نجدها في بيوتنا ومجتمعاتنا وثقافتنا تحمل عنفا مستقرا وعميقا في تصورنا عن المختلف في المذهب أو الدين ودرجة عالية من العنصرية ما أنزل الله بها من سلطان… وأكرر: ما أنزل الله بها من سلطان.
أدهشني أن يخرج علينا 96 عالم دين يجمعهم الهمّ الفلسطيني يطالبون بفتح باب الجهاد ويؤكدون على وجوب النصرة لغزة، لم يدهشني المحتوى بل أدهشتني تلك النفرة القوية التي جمعت في التوقيعات أسماء لا يمكن أن تجتمع في مكان واحد وإلا لفسق بعضهم بعضا من أهل المذهب الواحد ناهيك عن العلاقة مع المذاهب الأخرى، في حين أنه لم يجمعهم مثل هذا الهم لتحرير الإنسان العربي من ربقة الظلم والامتهان والتهميش التي يعاني منها والتي كان لها صلة مباشرة لمن كان له قلب وعنده بصيرة بما يجري في غزة، فانفراط عقد النظام العربي وضعف قدرته على الردع وعجزه عن تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشتركة وقبوله اختراق أمنه بقواعد عسكرية ومحاصرة من قبل الناتو لكثير من النقاط المحورية التي تكفل استقراره والحرص على المصالح النخبوية الضيقة والتضحية بالمصالح القومية الشاملة هو الذي أدى لجرأة الكيان الصهيوني على حرماتنا وعلى افتراس ما بقي من فلسطين، والقدس هي الهدف القادم.
لقد صدمني أن النقاش دار حول غزة وليس فلسطين في الأسابيع الماضية، صرنا نقول غزة والضفة والقدس ولم نعد نقول فلسطين… فلسطين… فلسطين… وصرنا نتحدث عن مصالحة عربية وليس استعادة للنظام العربي، أما في مصر فقد دار النقاش حول معبر غزة وليس حول… الحدود المصرية.
ما أحوجنا لديوان المظالم من جديد بعد أن فقدت الأمم المتحدة دورها ومازالت المحكمة الجنائية الدولية غير مستعدة لمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة.
ديوان واحد؟
يبدو أننا في حاجة... لدواوين
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2335 - الإثنين 26 يناير 2009م الموافق 29 محرم 1430هـ
مجهول
ان الشعب الفلسطيني مظلوم بهذه السلطة