الشعوب، عربية كانت أم غير عربية تختزن محبتها أو كراهيتها في أعماقها لقياداتها ولا تبديها إلا في مراحل متأخرة أحيانا إما بسبب قسوة الوضع والخوف من إبداء ما في أعماقها أو لأن الوقت غير مناسب، ولكنها في النهاية سينكشف هذا الاستبيان بين المحبة والكراهية، فهناك رجالات يصنعون التاريخ وآخرون يتجاوزهم التاريخ.
إن مناسبة هذا الحديث هو خروج عنصرين مهمين من الساحة: الأول هو المختار ولد داده الرئيس الأول لموريتانيا الذي انسحب من الدنيا بوفاته إذ كان خارج البلاد بعد أن أطيح به في انقلاب عسكري فعاش في منفاه بالعاصمة الفرنسية باريس وقد أعادوا جثمانه ليتم دفنه في مسقط رأسه. والآخر انسحب من الحياة السياسية بعد عطاء لم يتوقف لوطنه عبر 22 عاما من توليه رئاسة الوزارة، وأظن أن معظمنا شاهد عبر شاشات التلفزة كيف وقف الشعب الموريتاني بجميع أطيافه وتوجهاته السياسية باكيا حزينا لرحيل رئيسه الأول لأنه كان يودع إنسانا وطنيا صاحب حس قومي وتاريخ مفعم بالعطاء والبناء، فقد خلق مكانة عربية ودولية لتلك الدولة الموريتانية الفقيرة منذ توليه الحكم في أعقاب استقلال موريتانيا عن فرنسا في العام 1960 حتى العام 1978 عندما أطاح به العسكريون.
كان الحزن يسيطر على الشعب الموريتاني وهو ينقل جثمانه إلى مثواه الأخير في جنازة مهيبة وكانت محبة شعبه واضحة على ألسنة الجماهير ووجوههم من خلال اللقاءات التي أجريت معهم، سأل مراسل لإحدى الفضائيات إحدى المواطنات الواقفات في خشوع وألم لإلقاء نظرة على جثمان الفقيد الراحل عن أسباب حزنها عليه فأجابت: لقد رحل هذا الصادق الصدوق الأمين الذي أبرز الوجه المشرق لبلاده وأعطى كل ما في وسعه لشعبه، وكانت صادقة في كل كلمة تقولها لأن الراحل مختار ولد داده لعب دورا قوميا رائعا إلى جانب دوره في خلق دولة ذات مكانة على رغم إمكاناتها الاقتصادية المتواضعة خصوصا في تلك الفترة من القرن الماضي.
صحيح أن الأجيال الموريتانية الشابة لم تعايش تلك الحقبة من التاريخ في فترة حكم ولد داده، لكنه بالنسبة لها تمثل تلك المرحلة وهي الحقبة المليئة بالأمجاد، فقد لعبت موريتانيا في عهده دورا مهما ومحسوسا في القارة الأفريقية وفي الساحة الإسلامية بل وعلى مستوى دول حركة عدم الانحياز التي كان أبرز رموزها والداعين إليها آنذاك كل من الراحل الكبير المرحوم جمال عبدالناصر والرئيس الصيني شوين لاي واليوغسلافي جوزيف بروس تيتو ونهرو وكاسترو، وكان للرئيس الموريتاني الراحل علاقات متميزة مع جمال عبدالناصر إذ لعب دورا بارزا معه في نشر المواقف العربية في القارة الأفريقية وكانت له مواقف شجاعة إذ قطعت موريتانيا في عهده علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة في أعقاب حرب حزيران (يونيو) ولم ترتعد مفاصله خوفا منها كما يحدث اليوم لكثير من القادة العرب الذين يتسابقون في شراء الود الأميركي على رغم إرادة شعوبهم وعلى رغم طغيان الإدارة الأميركية التي أصبحت من دون وجه حق ومن خلال تحد سافر تقف مع العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وتستخدم حق (الفيتو) لإجهاض أي حق عربي لدعم جزار فاشي يقود حرب إبادة ضد شعب عربي آمن يحاول مقاومة الاحتلال، ولأن الرجال مواقف ولهذا فإن الشعب الموريتاني بكى هذا البطل الذي تحدى ذلك المارد الظالم الذي يمثل اليوم دراكولا يهابه حكام العرب، فقد لعبت موريتانيا في عهد المختار ولد داده دورا كبيرا للغاية في قطع الدول الأفريقية لعلاقاتها مع «إسرائيل» ما يؤكد حقيقة كبرى لدى الأمم أن الرجال يصنعون التاريخ وليس المال والإمكانات الاقتصادية، فلو قاست أمتنا العربية بين موريتانيا والدول العربية الأخرى ستجد أن أفقرها على الإطلاق هي موريتانيا وأضعفها موردا واقتصادا ومع ذلك استطاعت بفضل قائدها أن تبني لها مكانا مرموقا على خريطة العالم فلله در هذا الراحل الكبير.
لم يكسب مختار ولد داده محبة الشعب الموريتاني فحسب بل والشعب العربي كله بمواقفه القومية فقد كان سندا قويا لعبدالناصر وبعد قرابة نصف قرن من الزمان نجد موريتانيا اليوم تسقط في أحضان الدولة الإسرائيلية المعادية علما بأنها لا تستفيد شيئا منها سوى دعمها ببعض الأسلحة لقمع الشعب الموريتاني فاشترت الحكومة الموريتانية العسكرية الحالية بهذا الموقف كراهية شعبها والأمة العربية معه.
ألم تلعب مصر دورا عربيا وعالميا أكثر من حجمها في عهد جمال عبدالناصر؟ ثم ألم يلعب شارل مالك الرئيس اللبناني الأسبق بين ثلاث شخصيات عالمية الدور الأكبر في فرض قوانين حقوق الإنسان في الأمم المتحدة؟
ألم يصبح كاسترو على رغم صغر حجم كوبا وقربها من الولايات المتحدة مثالا للتحدي ضد الطغيان الأميركي وها هي كوبا بعد خمسين عاما تواصل مسيرة الاشتراكية من دون أن تسقط؟
أما الراحل الآخر فقد ترك الساحة السياسية جعل الله عمره طويلا فهو أيضا من بين العناصر التي يكن شعبه له كل الحب والود فهو الدكتور مهاتير محمد ذلك الطبيب الذي عالج اقتصاد بلاده ونموها بمبضع الجراح الناجح مثلما كان طبيبا ناجحا في بداية حياته العملية، ففي 31 من أكتوبر/ تشرين الاول الماضي تنحى هذا الزعيم التاريخي عن الحكم بعد 22 سنة قضاها متنقلا في مناصبة السياسية إذ تولى رئاسة وزارة ماليزيا فاوصل بلاده إلى مرحلة متقدمة من النمو الاقتصادي والتكنولوجي وتمكن من تغيير المجتمع الماليزي من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي متقدم للغاية.
لقد استطاع هذا القيادي المتميز أن يكشف زيف أكذوبة الغرب أن الإسلام مرتبط بالتخلف وأوضح عمليا بأن هذا الدين قادر على إبراز الوجه المشرق، ويعزو مهاتير الوهن الذي تعيشه الأمة الإسلامية إلى حد كبير للجهل والتحامل المستمر من قبل الأعداء عليها، والتحيز المجحف الذي تنكشف أبعاده مع مرور الأيام ضد الإسلام، وكما نعلم فقد أنهى حياته السياسية بترؤس المؤتمر الإسلامي الذي عقد في كوالالمبور وقال ما لم يقله بوضوح وشجاعة ودقة أي رئيس إسلامي غيره عندما هاجم بشدة موقف الغرب الذي قضى على 6 ملايين يهودي من مجموع 12 مليون ومع ذلك فإن أوروبا هي التي تلقي باللوم على المسلمين وتتهمهم بالعنف زورا وبهتانا كما اتهم اليهود بأنهم صاروا يحكمون العالم بالوكالة.
وأكد أنه قد لا نستطيع قتالهم بالقوة ولكن يمكننا قتالهم بالفكر، وعلى رغم ردود الفعل الحادة من قبل «إسرائيل» والولايات المتحدة واتهامه بمعاداة السامية غير أنه لم يتراجع وأصر بكل شجاعة على موقفه الصلب لما طرحه من تحليل وصارت لهذا الزعيم نظرية تسمى (المهاتيرية) وهي مجموعة من التوجهات والتصورات الخاصة بالإسلام والغرب والديمقراطية والتنمية والنظام الاقتصادي العالمي والعولمة إضافة إلى عدد من المنطلقات والافتراضات الخاصة بالعلاقة بين الدين والدولة والإسلام والتنمية والديمقراطية والتنمية ولهذا (فالمهاتيرية) مزيج بين القومية والرأسمالية والإسلام والشعبية والسلطوية.
فعلى رغم إيمانه بضرورة الديمقراطية وأنها أفضل النظم السياسية التي عرفتها الإنسانية غير أنه يرى فيها أنها لا تعدو كونها وسيلة للحكم غير مأمونة العواقب دائما في نظره فقد تؤدي إلى الفساد وإساءة استخدام السلطة كغيرها من الأنظمة السياسية ولا تمثل ضمانا للاستقرار السياسي في بعض الأحيان، ولهذا اتهمه البعض بأنه كان سلطويا ويؤمن بنظرية الدكتاتور العادل وهو من بين أول المدافعين عن القومية الآسيوية وإن لم يوفق في بسط نظريته.
ويعكف باحثون من المعجبين بأفكار ونجاحات مهاتير محمد في حكمه خلال المرحلة السابقة لماليزيا على إصدار كتاب بعنوان «د.مهاتير محمد بعيون عربية وإسلامية»، ومن بين ما يتناوله الكتاب مواقفه في مساندة القضايا العربية والإسلامية ومواقفه الداعمة للحقوق الفلسطينية وبخاصة رفضه محاولات الضغوط والإغراءات لإقامة علاقات طبيعية مع «إسرائيل» كما يتضمن نفيا قاطعا لتهمة الإسلام بالإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول على الولايات المتحدة.
إن مهاتير محمد من الرجال الذين يصنعون التاريخ، ومع كونه مسلما تمكن من ربط الدين بالسياسة وآمن بضرورة الاهتمام بالأفكار الدنيوية إذ لم يجد في ذلك أي تناقض، لقد كان مثالا للإنسان المسلم الواعي الذي أدرك بعمق مدى عدم التناقض بين الدين والدخول في عالم التكنولوجيا ما أبهر الغرب وأثار إعجابهم.
وكان أبرز نمور آسيا إذ لم يسقط في مصيدة البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولي فخرج من تلك المؤامرة سالما وخلق دولة تتمتع بكل مزايا الدول المتقدمة على رغم تعدد الأعراق فيها فهي تعتبر في مقدمة دول آسيا صناعيا وسياحيا وزراعيا.
هؤلاء هم الرجال الذين يظلون محفورين في ذاكرة شعوبهم ولا فرق بين دولة غنية وفقيرة فالرجال يخلقون واجهات بلدانهم فمثلما بكى الشعب الموريتاني على راحله القومي المختار ولد داده كذلك فإن الشعب الماليزي تألم كثيرا وهو يرى هذا العملاق الذي يرجع فضل الرفاهية التي يعيشها اليوم إلى هذا الذي رحل عن السياسة وتركها لخلفه عبدالله بدوي وعزاؤه أن يكون تلميذا صادقا وأمينا (للمهاتيرية) لكن الذين لن تبكي عليهم شعوبهم من القيادات العربية والإسلامية إن رحلوا وتكسر وراءهم (قلة) كما يقولون أولئك الذي جثموا على صدور شعوبهم من القياديين ممن نهبوا المال العام وانتشر الفساد المالي في عهدهم، فالتاريخ لا ينسى أنهم كانوا أسوأ مثل للأمة مثلما لا ينسى التاريخ الرجال العظام مثل المختار ولد داده ومهاتير محمد وغيرهما
العدد 427 - الخميس 06 نوفمبر 2003م الموافق 11 رمضان 1424هـ