على غرار السنوات الماضية انطلقت خلال شهر رمضان الجاري بأروقة القصر الملكي المغربي في الرباط الدروس الحسنية الرمضانية التي يترأسها العاهل المغربي بحضور عدد من المسئولين السياسيين والعسكريين، وسفراء وممثلي الدول العربية والإسلامية، بالإضافة إلى عدد من رجالات الدين. ولأهمية هذه الدروس وتناولها جوانب سياسية واجتماعية نقدم قراءة لأهم ما فيها.
كالعادة ألقى الدرس الافتتاحي وزير الأوقاف والشئون الإسلامية المغربي أحمد التوفيق تناول فيه بالدرس والتحليل موضوع «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هدي القرآن إلى وازع السلطان» انطلاقا من قول الله تعالى «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور» (الحج: 40 و41).
واختار أحمد التوفيق كمدخل للموضوع البحث في اصل وكنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة. وتوقف بداية عند ملاحظة تتمثل في اقتران ذكر النهي عن المنكر والأمر بالمعروف في الآيات الكريمة بذكر ركنين أساسيين من أركان الإسلام وهما الصلاة والزكاة، ما يؤشر إلى مركزية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين.
وأشار إلى اختلاف المفسرين حول معنى «دفع الله الناس بعضهم ببعض» في الآية الكريمة التي شكلت أساس موضوع الدرس مستعرضا مختلف التفسيرات التي أوردها الطبراني الذي خلص إلى القول إن أولى الأقوال في ذلك بالصواب أن الله تعالى اخبر أنه لولا دفعه الناس بعضهم ببعض لهدم ما ذكر من دفعه تعالى بعضهم عن بعض فكفه المشركين بالمسلمين عن ذلك ومنه كفهم ببعضهم عن التظالم فالسلطان الذي كف به رعيته عن التظالم فيما بينهم فلولا ذلك لتظالموا فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيعهم.
العدل والتوازن الدولي
واستنتج التوفيق من خلال تقديم تفسير قوله تعالى «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور» أن الأوائل اعتبروا أن المعروف الأكبر يتمثل في الدعوة إلى التوحيد والإخلاص لله وحده والمنكر الأكبر هو الشرك بالله.
وأضاف أنه يمكن في هذا العصر أن يفهم المسلمون أن التدافع بين الناس هو ذلك الذي يبعدهم عن المنكر والظلم موضحا أنه يمكن فهم هذا التدافع على المستوى الكوني فيما يعرف بالتوازن الدولي الذي يقوم على أساس السلم المسلح، فيما يمكن فهم هذا التدافع على مستوى البلد الواحد بكونه توازنا بين قوى يمكن لبعضها أن يكف ويردع البعض الآخر.
وقال المحاضر إن هذا التدافع لا يتأتى بالتي هي أحسن إلا داخل «النظام الحديث الذي تدرج إليه الناس عبر محن كثيرة وهو النظام السياسي المتعدد الاقتراحات والاجتهادات».
وفي معرض تقديمه للأحاديث التي تشير بدورها إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر توقف التوفيق عند الحديث الشريف «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطيع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
الإصلاح بالقوة
وبعد أن لاحظ أن شرح هذا الحديث شغل أهل المذاهب والفرق الإسلامية على امتداد القرون ذكر المحاضر ناقلا أن هذا الحديث نص على ثلاث مراتب من تغيير المنكر أولها تغييره باليد وهو مخول لمن له سلطان وإزالته باللسان وهو خاص بالعلماء وبالقلب وهي مرتبة خاصة بمن ليس له سلطان ولا علم وهو أضعف الإيمان.
وذكر وزير الأوقاف والشئون الإسلامية المغربي أنه إذا كانت قد نشأت عن مباشرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو المستند الشرعي الأساسي لما يسمى اليوم بالمشاركة السياسية فتن ومحن وأزمات سالت فيها دماء كثيرة فان النقاش حول شرعيتها وكيفيتها أسال بدوره مدادا كثيرا، مؤكدا أنه بالنظر إلى الملابسات التي أحاطت بهذا النقاش لم يكن من الممكن أن يخضع للمنطق المطلق إذ انه عكس مواقع أصحابه في الدولة ومن الدولة.
غير أن الأئمة المؤسسين - يضيف المحاضر - وعلى اختلاف حماسهم في التعامل مع الدولة اجمعوا على أن تغيير المنكر بالسلاح أو تغييره باليد هو من اختصاص الأمير أي الحكومة وليس لأحد أن يقوم بذلك ما لم يكلف به أو ينتدب إليه. غير أن اجتهادات بعض المتأخرين عن العهد الأول أجازت للأفراد تغيير المنكر باليد لاسيما في حال وجود فراغ في السلطة، معتبرا أن خطورة هذا الخلاف تكمن في كون النهي عن المنكر لم يكن يستهدف الأشخاص العاديين المنحرفين بل كان يستهدف على الخصوص إصلاح المنحرفين من الحكام أما بالوعظ القولي أو بالمواجهة التي قد تتحول إلى صدام وتمرد.
البعد التاريخي
وبالنسبة إلى المذهب المالكي السائد في الغرب الإسلامي - بلاد المغرب والأندلس - أشار التوفيق إلى تنوع الآراء داخله بهذا الخصوص إذ انه على رغم كون المالكية نشأت في بيئة حضرية يفترض أن توجد فيها سلطة قوية نسبيا فان الدعوات الأولى في قبائل المغرب كانت لها طموحات سياسية. وأضاف أن تلامذة الإمام مالك سألوه عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فشجعهم في بعضها ووافق على بعضها الآخر لكنه اشترط دائما الرفق وعدم التعنيف.
وذكّر التوفيق بالمؤسسات التي تقوم بالأمر والنهي في الدولة الإسلامية وعلى رأسها قضاء حر متعدد الاختصاصات يمتزج مع خشية الله ومنه ديوان المظالم الذي يتولى مراقبة العمال والولاة وغيرهم من المسئولين وكذا الحسبة، مؤكدا أن المتأمل للأمرين ولشروطهما وأركانهما وآدابهما سيجد نسقا عاليا من تعبئة القرآن للمسلمين للإصلاح الفردي والجماعي الدائم بهدف إعانة الدولة إن كانت عادلة ومحاسبتها إن كانت مقصرة. كما أن المتأمل سيجد أن الأمر والنهي هو الشغل الشاغل للدولة الحديثة إذ ان القوانين التي تصدر تتوخى أما الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر.
وأشار إلى مجموعة من النقاط المتعلقة بتحيين شروط الناهين عن المنكر وصفات المنهيين والأمور التي يتم النهي عنها في دولة العدل والمؤسسات وتتمثل في أنه لو انطلق المكلفون المسلمون من عقيدة وجوب النهي والأمر لما عانوا من العزوف عن المشاركة في الانتخابات. كما يمكن التحيين من إعادة الاعتبار للمرأة في تحمل واجبها ومسئوليتها في الأمر والنهي وإعادة الاعتبار للعامة من خلال تذكيرهم بمسئولياتهم وإعطاء العلماء دورهم الروحي والإرشادي الريادي والمصالحة بين الضمير الإسلامي ودولته لا من جهة الخوف من الفتنة بل من جهة ارتجاء الأمر بالمعروف وضمان الحماية من المنكر والاطمئنان إلى الإجراءات التخليقية وتغليب الأمر بالمعروف حتى يصبح النهي عن المنكر مجرد إجراءات لحفظ الأمن والطمأنينة وتعريف الناس وعمال الدولة خصوصا بالآداب الإسلامية للنهي عن المنكر.
وأضاف التوفيق أن هذا التحيين مشروط بالاجتهاد في سبيل إقناع المتمسكين بالتراث مخافة الفساد والفتنة وذلك في قضايا كمفهوم الحرية وتوسيع مفهوم الحياة الشخصية الخاصة والموقف من بعض المنهيات التي لا يجب تعميم الحكم التراثي بشأنها كالموسيقى
العدد 427 - الخميس 06 نوفمبر 2003م الموافق 11 رمضان 1424هـ