أكدت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) مجددا العمل بسياسة منع وسائل الإعلام تصوير نعوش الجنود الأميركيين القتلى في العراق الذين وصلوا مساء الاثنين الماضي إلى قاعدة رامشتاين الجوية الأميركية جنوب غرب ألمانيا، تمهيدا لنقلهم إلى «مشرحة دوفر» في ولاية ديلاوير ليرتب بعد ذلك دفنهم بعد حضور ذويهم. وتحظر السلطات الأميركية دخول كاميرات التلفزيون إلى «دوفر» أثناء استقبال النعوش.
وذكرت تقارير صحافية كثيرة أن الأميركيين لم يسمع لهم برؤية معظم نعوش جنودهم، ولم يشاهدوا أيضا المصابين الذين ينقلوا إلى مستشفى «وولتر رييد» العسكري في واشنطن للعلاج، أو الجنود الذين يقال إنهم يعالجون بطرق غير إنسانية في انتظار نقلهم للعلاج في قاعدة «فورت ستيوارت» في ولاية جورجيا.
وكشفت هذه التقارير أن البنتاغون لجأت إلى تلك السياسة في محاولة للترويج لمزاعمها بشأن استقرار الوضع الأمني، وإقناع الشعب الأميركي غير المؤيد للحرب بأنه يتم إحراز تقدم على صعيد إرساء الأمن.
ويقول مراقبون إن رغبة في قبول نعوش القتلى من الجنود الأميركيين كانت منذ زمن طويل مؤشرا مهما لتأييدهم للحروب التي تشنها الولايات المتحدة. ولدى البنتاغون مصطلح لقياس رد فعل الرأي العام للنعوش الملفوفة بالعلم الأميركي والعائدة إلى قاعدة دوفر وغيرها من المواقع التي ترسل إليها قبل دفنهم... وهذا الاصطلاح هو «اختبار دوفر».
وفرضت البنتاغون مجددا وبشكل صارم في مارس/ آذار الماضي عشية غزو العراق، حظر التغطية الصحافية لنقل نعوش المجندين. وبرر مسئول في البنتاغون هذه السياسة بقوله إنها تهدف لحماية خصوصيات أسر الضحايا في «أوقات الخسارة الكبرى أو الحزن»، موضحا أن هذه القاعدة سارية منذ العام 1991.
لكن مسئولا أميركيا قال: إن من الضروري للشعب الأميركي مشاهدة هذه النعوش لأنها تعبر عن حقيقة ما يتعرض له الجيش. وقد سمح الجيش الأميركي للصحافيين بتصوير الجنود المصابين ومنعهم من تصوير نعوش 16 جنديا لقوا مصرعهم في حادث إسقاط مروحية من طراز «تشينوك» قرب الفلوجة.
وكانت هذه القيود خففت في السنوات القليلة الماضية وسمح لشبكات التلفزيون الألمانية بتغطية مراسم تأبين ونقل نعوش ضحايا الهجوم على المدمرة الأميركية كول والحرب على أفغانستان.
ويمثل تجنب سقوط ضحايا أولوية أساسية في المعارك منذ حرب فيتنام التي انتهت قبل ثلاثة عقود وأسفرت عن سقوط أكثر من 58 ألفا.
وكان «اختبار دوفر» أثر على قرار إدارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في حرب كوسوفو إذ اقتصرت على القصف الجوي من دون قوات برية. وعندما ذبح 18 جنديا أميركيا في الصومال العام 1993 وبثت شبكات التلفزة صور سحب الجندي الأميركي في شوارع مقاديشو كانت هناك صرخة غاضبة من الجمهور الأميركي أرغمت حكومة كلينتون على سحب قواتها بسرعة. واليوم تصل النعوش الملفوفة بالعلم الأميركي مرة أخرى إلى «دوفر» في الوقت الذي يرتفع فيه عدد القتلى في العراق إلى نحو 400 جندي وأكثر من ألفي جريح فقد الكثير منهم أطرافهم.
وتتهم الصحف إدارة الرئيس بوش بتجاهل العائلات التي تعيش في حزن شديد بسبب خسارة أبنائها، وعدم الاهتمام بالنعوش التي تتدفق ملفوفة بالعلم الأميركي، والجنود الذين فقدوا أطرافهم في انفجارات بالعراق. مشيرة إلى أن بوش نفسه لا يحضر جنازات الجنود في حربه التي شنها على العراق وأفغانستان. ومن بين القتلى الذين تجاهلهم البنتاغون العقيد في الجيش الأميركي بوهرينغ، الذي قتل في الهجوم الصاروخي الذي تعرض له فندق الرشيد في بغداد الأسبوع الماضي، وكان خدم في الجيش 18 عاما. وعندما قُتل في العراق لم يقل أحد من أعضاء إدارة بوش كلمة إشادة في حقه. كما كشفت تقارير صحافية عن سوء المعاملة التي يتلقاها الجنود الجرحى في قاعدة «فورت ستيوارت» إذ كانوا يدفعون ثمن وجبة طعامهم في المستشفى وقيمتها نحو ثمانية دولارات.
وعلق أستاذ الاتصالات في الجامعة الأميركية في واشنطن كريستوفر سيبوسون على موقف البنتاغون بالقول إن «ذلك الأسلوب يمكن الإطلاق عليه التحكم في الأخبار أو السيطرة على المعلومات». واعتبر سيبوسون «أن البيت الأبيض أكبر مستخدم للدعاية في تاريخ الولايات المتحدة»، وأضاف «إذا كان لديهم أدنى حد من الشرف لاعترفوا بذلك... ولكنهم لا يستطيعون».
وقالت الخبيرة الإستراتيجية والمسئولة السابقة في البيت الأبيض في عهد كلينتون لين كيلتر «إن هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تأتي فيها النعوش تحت غطاء من السرية». وانتقدت عدم الاهتمام بالقتلى الذين يسقطون في العراق، وقالت إن «هناك إدارة ووزارة دفاع كبيرتين، ويجب أن يكون هناك من يستقبل تلك النعوش لدى عودتها إلى الأراضي الأميركية».
ويقول خبراء إن منع رؤية النعوش إنما هو جزء من رد مقلق على مخاوف الجمهور الأخيرة بشأن الحرب. فقد انتقد مسئولون أميركيون حديثا وسائل الإعلام الأميركية لرسمها صورة أكثر قتامة للأوضاع في العراق بعد الحرب، وهم يزعمون أن الحقيقة هي أكثر إيجابية.
وتعلق صحيفة «تورنتو ستار» الكندية على الطريقة التي تعامل بها البنتاغون الجرحى مشيرة إلى وجود تمييز، وتقول إنه في الوقت الذي تم فيه إشهار المجندة الجريحة جيسيكا لينش إلى حد حصولها على عقود من هوليوود فإن المجندة شوشانا جونسون التي كانت أسيرة في العراق لمدة 22 يوما لن تحصل سوى على 30 بالمئة من راتبها تعويضا شهريا (نحو 700 دولار). ونقلت الصحيفة عن عائلة جونسون تفسيرهم للفارق في المعاملة أن لينش بيضاء وجونسون سوداء
العدد 427 - الخميس 06 نوفمبر 2003م الموافق 11 رمضان 1424هـ