من سلبيات « العولمة » إنها تقرب المسافات البعيدة وتبعد المسافات القريبة. فالعولمة هي فعل متناقض، فمن جهة تسهل الاتصال بين ابعد نقطتين وتعزل اقرب نقطتين عن بعضهما بعضا. فالعولمة اختصارا هي تكثيف لمأزق العلاقة بين الكونية والفردية. هذه الفجوة توقع حصولها في ثمانينات القرن الماضي مستشار كارتر للأمن القومي بريجنسكي. آنذاك تخوف بريجنسكي من أن ترفع « العولمة » درجة حرارة الاتصال من خلال ربط العالم بأجهزة المواصلات والاتصالات في وقت تكون فيه العلاقات البشرية (الإنسانية) المباشرة تشهد المزيد من الانخفاض والبرودة، فيصبح الإنسان يعلم ماذا يحصل في العالم ولا يعلم ماذا يحصل في القرية المجاورة لقريته أو في الحي المجاور أو حتى الجار الذي يسكن قبالته.
توقع بريجنسكي أن هذا النوع من النمو المتفاوت في العلاقات بين البشر سيدفع الإنسان إلى المزيد من العزلة والانكفاء فهو يتصل بالعالم بالانترنت من خلال منزله المتواضع في قرية صغيرة نائية ولكنه لا يتصل في الآن بجاره ولا يكترث بأخباره وأعماله، هذا النوع من العزلة رأى فيه بريجنسكي جوانب سلبية سترفع من درجة التكور الاجتماعي، إذ سيبحث الفرد عن جماعته (اللون، الدين، المذهب، العادات والتقاليد) لحماية هويته من التلاشي والاضمحلال تعويضا عن خسارته لتلك الصلات الإنسانية البسيطة والمباشرة مع الآخر.
ومع الأيام توقع بريجنسكي - وهنا بيت القصيد - أن يشهد العالم في نهاية القرن الماضي وفي القرن الجاري المزيد من الحروب الأهلية التي تحصل لأسباب لها صلة بالهوية. فالحروب الجارية والمقبلة ستكون أساسا تلك القائمة على فكرة الدفاع عن الذات من الانهيار أو الذوبان في محيط عالمي تجتاحه «حداثة» الاتصال من خلال شبكة الانترنت والأقمار الاصطناعية ومحطات الفضاء.
هذا الاجتياح ليس جيدا كله، فهناك الكثير من الظواهر السلبية والعوارض الاجتماعية ستنجم عنه بسبب مناخ العزلة وانكفاء الفرد إلى غرفته يسهر وحيدا مع جهاز التلفزة أو آلة الكمبيوتر أو شبكة الانترنت.
انه إذا عالم متناقض فهو يتطور من جهة ويتراجع من جهة، الأمر الذي يطرح السؤال عن إمكان ربط التقدم التقني ووسائل التطور في الاتصال بتطوير العلاقات الإنسانية (الفردية والمباشرة) بين الإنسان والإنسان، هذا السؤال يحتاج إلى جواب، وهو مثل كثير من الأسئلة تُطرح ويُترك الجواب للزمن. لان كل كلام في هذا السياق سيبقى في إطار التوقع والافتراض بينما حركة التاريخ دائما تسير وفق خصوصيات تتعدل في مجرى الزمن نفسه وتعيد تشكيل نفسها وفق اعتبارات موضوعية أحيانا وذاتية أحيانا أخرى... إلا إنها في النهاية ليست متوافقة في خصوصياتها بسبب ذاك التفاوت الاقتصادي والفجوة الهائلة في توزيع الثروة العالمية بين عالم الفقراء وعالم الأغنياء.
الفقراء دائما (على المستويين الفردي أو الاممي) يحاولون تقليد الأغنياء في عاداتهم وتصرفاتهم بغية الوصول إلى حال من التماهي معهم... لكن الوقائع على مستوى الأمم أو الأفراد تكشف عن ازدياد الهوى بين الفقير والغني نظرا لتركز الثروة في مكان والفقر في مكان آخر.
هذا الكلام النظري يمكن وضعه كمقدمة للموضوع عن دور السياسي وصلته بالسياسة الدولية. وكذلك عن دور الصحافة المحلية واهتمامها بالشئون الدولية.
السياسي في النهاية، ومهما بلغت نظرته إلى الشئون الدولية من التقدم و الإحاطة، هو محلي الهوة والاتجاه. ولا يستطيع أن يكون غير ذلك حتى لو اتسعت آفاق رؤيته للمحيط الإقليمي والأبعاد الدولية للعلاقات السياسية، فالسياسي في النهاية هو التعويض المعنوي عن ذاك النقص الإنساني في العلاقات الفردية بين الإنسان والإنسان وبين الفرد والآلة، لذلك يمكن فهم معنى أهمية المحلي وقوته في تقرير سلوك الفرد على رغم التطور في العلوم والتقنيات. كذلك يمكن ملاحظة المعنى الإنساني لدُور العبادة وما تفرع منها وجاورها من أندية وجمعيات وهيئات متخصصة في هذا الحقل أو ذاك النشاط، فهذه الدُّور (المساجد، الجوامع، المآتم) وما لها من صلة بالشأن المحلي، أخذت موقعها المميز لأنها هي المساحة المتبقية للفرد في علاقاته الإنسانية مع الفرد الآخر (الجار احيانا).
الصحافة المكتوبة أيضا، لايمكن إلا أن تسيطر عليها النزعة المحلية لأنها في النهاية ترد على حاجة داخلية لا يجدها الفرد في شبكة الانترنت أو محطات التلفزة أو الفضائيات، فالصحافة المحلية هي محلية في الدرجة الأولى لأنها أساسا تلبي رغبة، وتجاوب عن سؤال البحث عن الهوية المشابهة للفرد الذي يعاني أصلا من الانعزال على رغم تواصله مع آخر في عالم بعيد عنه.
انه عالم متفاوت النمو، ففي الوقت الذي يتجه فيه الإنسان إلى التقدم على مستويات الآلة والتقنيات والاتصالات والمواصلات يتراجع في الآن على مستوى معرفة حاجات الآخر القريب منه. فالفرد يتطور من جانب وينعزل من جانب آخر. وبين العزلة و التطور ينشأ ذاك التمزق الداخلي بين معرفة لا صلة لها بواقعه، وواقع يعاني من مشكلات بحاجة لحلول فورية أو بعيدة المدى. والانكفاء إلى الخصوصيات هو نوع من الحنين إلى ماضٍ يتلاشى ومخاوف من مستقبل غير واضح ومكتمل الصورة. لذلك لا خلاص للسياسي من النجاة من الغرق في بحر المحليات، كذلك لامناص من اهتمام الصحافة بالجوانب المحلية على حساب الشئون الدولية والآفاق البعيدة.
هذا جانب من الصورة، الصورة الأخرى هي أن المحلي (في السياسة و الإعلام) لا يمكن عزله عن الإقليمي والدولي وبالتالي تجاهل القدرة التدخلية للخارج في التأثير على العلاقات الداخلية. فالعالم الآن في حال تضارب. والتضارب ناجم عن تلك التحولات التي توقعها بريجنسكي حين تحدث عن تقارب العالم وابتعاده، وعن سهولة الاتصال وصعوبة الربط ، وأخيرا عن ذاك التضاد بين نمو عدواني للعولمة وانكفاء الفرد إلى الحلقات الضيقة بحثا عن هويته أو على الأقل بحثا عن وسائل تحصن ذاته من التلاشي في عالم من دون هويات.
السياسي في النهاية هو محلي الرؤية مهما حاول اكتشاف الآخر من خلال قراءة بنية العلاقات الدولية. إلا أن محلية السياسي لا تبرر تهميش الاهتمام بالسياسة الدولية لأننا أيضا نعيش عصر نمو العناصر التدخلية في تقرير مصير الشعوب وربما هوياتها.
وهذا بالضبط مصدر التناقض بين العولمة والهويات أو بين تقارب العالم وابتعاده في الآن
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 427 - الخميس 06 نوفمبر 2003م الموافق 11 رمضان 1424هـ