حدثني أحدهم عن الحلقة الماضية من «أوراق أميركية» والتي تناولت الولايات المتحدة الأميركية كحلمٍ يراود الكثيرين، وقال لي: أعتقد أن الهجرة هي الحل لكثير من مشاكلنا نحن العرب في العالم الثالث، وسألني كيف هي الحياة هناك؟ وأعتقد أنني لم أكن الشخص الملائم للإجابة عن هذا السؤال إذ إنني لم أعرف الحياة هناك إلا كعابرة سبيل تنقلت بين المدن الأميركية في دورة تدريبية للتعرف على وسائل الإعلام الأميركية. لكنني على رغم ذلك أحببت أن أشارك محدثي وأشارككم في حلقة جديدة كتبتها من «أوراق أميركية»...
الحياة في الولايات المتحدة باردة، ولا أقصد بالبرودة طبيعة الجو أو جغرافية المناخ، وإنما أقصد بها الحياة نفسها، الشعور بالحياة وكيف يعيشها الناس مع بعضهم البعض. كل شيء حولك بارد، الناس والمنشآت، كأنه عالم غير حقيقي، كأنه بالفعل أحد الأحلام أو أحد الأفلام الهوليودية.
وربما يعود الأمر إلى أنني جئت من خلفية مشبعة بعبق قديم وأصيل و«حار» يختلف تمام الاختلاف عن هذه «البرودة» التي تعبق بها الحياة الأميركية. فهناك شعرت كيف تفكر الناس في مجتمعنا وتتصرف بطريقة حارة وساخنة وأحيانا لاسعة. وقد ذكّرني هذا الأمر بدرس الأحياء الذي يعلمنا كيف نتعرف على الكائنات ذوات الدم البارد، والكائنات ذوات الدم الحار. وأعتقد أن التصنيف بهذا المعنى منطقي هنا وواقعي جدا، ولكنك يمكن أن تتعرف عليه بالإحساس، وليس بالتحليل الفيزيائي والكيميائي للكائنات الحية. فقد وجدت في أميركا مجتمعا يضج بالبرودة، الناس والمشاهد والبحر والهواء، كل شيء بارد، وربما عكس الجو طبيعته على أهل المدينة بشكل ما، على الرغم من أن زيارتي كانت في فصل الصيف.
أما في مجتمعاتنا فإنك تجد «الحرارة» في كل مكان، في الجو وفي تعامل الناس معك وطريقتهم في الحديث وطباعهم، وفي المباني المتراصة بشكل عشوائي، وأيضا في العلاقات الأسرية وحديث الناس مع بعضهم بكل سهولة، وفي الأسواق والمستشفيات والمدارس. وتختلف درجات الحرارة في مجتمعاتنا وتتفاوت، فأحيانا تكون «دافئة» وأحيانا أخرى «حارقة» حسب الموقف والمكان والزمان. وقس على ذلك كل شيء بدءا من أنواع الأطعمة وانتهاء بأنواع الألفاظ التي تستخدم.
برودة الثلج
الحياة في أميركا لا دفء فيها، لا مشاعر تحركك، كل شيء بارد برود الثلج. ولطالما اعتقدت أن سبب ذلك هو «جِدّة» ذلك المجتمع، إذ إنه لا يمتلك حضارة تضرب في جذور التاريخ، وتحرّك تصرفات الناس وتعاملهم مع غيرهم. وبالتالي تستطيع أن تكتشف بسهولةٍ أن شيئا لم يترك للصدفة هناك، كل شيء منظم في جماليته، مع أنه فقد الكثير من عفوية الصدفة التي تحمل جمالها أيضا. المجتمع الأميركي قام على تاريخ حديث نوعا ما، وخلد لتاريخه الحديث هذا عددا ليس بالقليل من المباني والمنشآت. ويمكنك أن ترى ذلك بشكل واضح عندما تزور العاصمة واشنطن. فالعاصمة أقيمت على شكل «معين»، تحده في الزوايا الأربع معالم المدينة الشهيرة، البيت الأبيض، مبنى لنكولن، المسلة المصرية، ومبنى الكونغرس. وعلى طول المساحة الفاصلة بين هذه المباني عدد كبير ورائع من المباني الأخرى التي صممت لتكون مباني وزارات حكومية. صممت على الطريقة الإغريقية وكأنها متاحف وليست وزارات. وهناك تجد بالفعل أنك أمام مدينة مخططة ومنظمة ولم تترك شيئا للصدفة أو العشوائية. فالمباني متتابعة في ترتيب جميل وأنيق، والشوارع منظمة، والحديقة الواسعة التي تتوسط الشكل المعين غاية في الإبداع والتخطيط. إلى جانب المنازل المحيطة بمبنى الكونغرس والتي تعتبر من أقدم المنازل في أميركا، وقد حدّد كل منها تاريخ بنائه على واجهة المنزل والذي يعود في أغلب الأحيان إلى أوائل القرن التاسع عشر أو نهايات القرن 18. وعلى رغم أن هذه البيوت المتراصة حول الكونغرس تبدو في تنسيق جميل وألوان متعددة وكأنها مكملة لمنظره، إلا أنها بيوت ومساكن مأهولة تشغلها عائلات توارثتها أبا عن جد.
تساؤلات امام لنكولن
طالما تساءلت وأنا هناك، أقف أمام مبنى تمثال لنكولن، وأتنقل في المساحات الخضراء الشاسعة في كنساس، وأتجول في أسواق سان فرانسيسكو، كيف استطاع كل هؤلاء البشر أن يستوطنوا هذه القارة ويبنوها بأجمل ما يمكن، وأن يتعلموا ويتقدموا ويصنعوا ليفرضوا على العالم كله علومهم وثقافتهم؟ كيف استطاعوا أن يستوطنوا قارة أميركا الشمالية كاملة ويسلبوها من سكانها الأصليين (الهنود الحمر) بالقوة بكل ما فيها من تعقيدات جغرافية وتنوع مناخي، ثم يزرعونها ويقيمون عليها المباني والمنشآت والعلوم والفنون والثقافة لتصبح قبلة للناس من كل أقطار الأرض؟ولطالما تساءلت أيضا، أين كنا نحن في المقابل، ماذا كان العالم يفعل، وماذا كنا نحن العرب نفعل، هل شغلتنا كتابة الشعر ومحاربة بعضنا البعض عن العمل الجاد والمبدع؟؟ ربما، لكن الأكيد في الموضوع أن ذلك كلفنا الكثير، وربما يطول بنا الزمن حتى ندفع الثمن
إقرأ أيضا لـ "ندى الوادي"العدد 426 - الأربعاء 05 نوفمبر 2003م الموافق 10 رمضان 1424هـ