العدد 425 - الثلثاء 04 نوفمبر 2003م الموافق 09 رمضان 1424هـ

هل كسبت إيران فعلا معركة ملفها النووي؟

دبلوماسية حافظت على مصالحها الاستراتيجية

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يتميز نظام الجمهورية الإسلامية في إيران بشدة تعقيدهِ وبتركيبته الهرمية التي هي أقربُ ما تكون إلى فسيفساء تنتظم وفق منهاج سياسي تتماهى فيه أصول الدين وما يرشح عنها من أطر ايديولوجية مُلزِمَة ومقتضيات الواقع حتى لكأن المرء يقرأها حينا كتلة أوتوقراطية صمّاء ومرة لائكية ميكيافيلية ومرة إمارة دينية تنتهج التأسلم الراديكالي حتى النخاع ومرة نظاما ديمقراطيـا (إسلاميا) راشدا يُفحِمُ ناقديه بفعله الحيوي وبسطوة حجته الفلسفية وهو واقعه الحقيقي.

في العام 1992 أصدر القضاء الألماني لائحة إتهام بحق مسئولين سياسيين وأمنيين كبار في النظام الإسلامي الحاكم في طهران متهما إياهم بالتورط في حادث مطعم ميكونوس في برلين والذي قِتل على إثره معارضَيْن إيرانييْن (كردييْن) فقامت طهران (وفي خطوة احتجاجية) بطرد السفير الألماني لديها، واشتد الأمر تعقيدا وسوءا عندما ردَّت دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة بسحب سفرائها من طهران تضامنا مع ألمانيا، حتى تلبدت سماء العلاقات الإيرانية الاوروبية بغيوم غير صيفية وثار في جوها غبار ورمال وحجارة ملأت الأجواء وحجبت الرؤية، وفي أتون تلك الأزمة خرج الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني في صلاة جمعة طهران أمام حشدٍ من المصلين(وكان عندها رئيسا للجمهورية) وقال مخاطبا السفراء الأوربيين «سترجعون إلى طهران أذلاّء»! وكان ذلك التصريح خطيرا في حينه ولا يبدوا لممتهني السياسة سوى ضربٍ من الخطب الدوغمائية التي يُراد منها شحن الهمم. بل قرأه آخرون بأنه عناد تحكم في العقل وأنه غرور القوة الجماهيرية آخذ أصحابه إلى منتهاه. إلاّ أن الأمر لم يكن كذلك فقد عاد السفراء الأوروبيون بعد حين فعلا إلى طهران من دون أن تتنازل الأخيرة عن موقفها بإدانة قرار القضاء الألماني والمطالبة بسحبه أو تجميده، ولم يُعلم أن في الدهاليز الدبلوماسية أمورا أخرى فقد تكيفت الدول الأوروبية في نهاية المطاف خوفا على مصالح اقتصادية ومالية وعقود تجارية بآلاف الملايين من الدولارات كانت قد تورطت بها مع الشركات الإيرانية البِكر والبازار الإيراني النافذ الذي يستحوذ على أكثر من 70 في المئة من التجارة الداخلية وكذلك على حوارٍ نقدي بدأ لتوه وجد فيه الأوروبيون مدخلا مهمّا يمكن أن يُساعد في إعادة التوازن لأوروبا في «الشرق الأوسط» وفي جنوب شرق آسيا بعد أن تبيَّن لهم أن الشريك القابع وراء المحيط الأطلنطي شريك صعب يريد أن يحصل على كل شيء ولا يترك لشركائه بعده كثيرا أو قليلا.

وبعد مرور 10 سنوات على تلك الأزمة وبالتحديد في فبراير / شباط من العام 2002 نشبت أزمة دبلوماسية جديدة ولكن هذه المرة مع بريطانيا عندما أصرّت الأخيرة على تعيين الدبلوماسي ديفيد ريديويه سفيرا لها في إيران الأمر الذي رفضته طهران بشكل قاطع واصفة ريديويه بأنه صهيوني متطرف لا يمكن لأرض إيران أن تسعه، فردت بريطانيا بأنها لن تُعيِّن أحدا غير ما اختارت، وأصرَّ الإيرانيون على موقفهم رافضين أية مرونة فيه، ولم يُؤذن لتلك الأزمة أن تنتهي إلاّ بعد أن رجّحَ البريطانيون سياستهم البرغماتية ومصالحهم المتنامية في إيران ورضخوا للمطلب الإيراني.

وكانت تلك السياسة الإيرانية في التعامل مع بعض الملفات الحسّاسة سمة تكاد أن ترتسم على الكثير من القضايا التي واجهتها إيران على مدى ربع قرن منذ انتصـار الثورة الإسلامية فـي 11 فبراير/ تشرين الثاني 1979م وإلى الآن.

أزمة الملف النووي

قبل أسابيع وضعت الأزمة النووية الحادة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية أوزارها بعد خلاف حاد ساهمت الإدارة الأميركية بغير قليل في إذكائه وتحشيد ما أمكن من الفرقاء ومن لفّ لفهم للضغط باتجاه التصعيد ومحاولة جرّ الملف إلى مجلس الأمن لاستصدار قرارات تتوافق وسياستها تجاه طهران، وكان ذلك إيذانا بإشعال فتيل أزمة أخرى الى جوار العراق وأفغانستان من قِبَل واشنطن بعد سيل من الإخفاقات العسكرية والسياسية في هذين البلدين.

وفي خضمّ تلك المعركة الدبلوماسية لاحت في الأفق حكمة المفاوض الإيراني الذي بدا مقتنعا بأن الأزمة المُحْتَدّة تحتاج إلى عملية تزييت تجعلها سلسة وأن المصلحة الوطنية هي أن تستجيب طهران لدواعي السياسة بأقل الخسائر وحصل ذلك فعلا برشاقة قوام تستحق القراءة:

1- أرادت إيران باستدعائها وزراء خارجية كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا أن تسرق الموقف واللجام وتقتطف نصر المعركة من يد البيت الأبيض وتعزله بالكامل عن مقدمات ونتائج هذا الملف الشائك، الأمر الذي يُعطيها فرصة أكبر للمناورة والالتفاف حول الطلبات الأميركية وطلبات مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي هو واقع بلا أدنى مواربة تحت النفوذ الأميركي.

كما أنها بموافقتها على توقيع البرتوكول الإضافي وفق شروطها الموضوعة سلفا حصلت على تأييد وتعاطف عالمي كبير أشاح هالة من التقدير على موقفها وخلق حالا من التشويش المتصاعد على أصوات اليمينيين في الإدارة الأميركية بعد أن برهنت للعالم سعيها الدائم الى بناء أواصر الثقة والحفاظ على السلم العالمي.

2- بدأت إيران في استغلال الخلاف الاميركي من جهة والاوروبي الأممي من جهة أخرى في الكثير من الملفــات الحيوية كقضايا الشرق الأوسط وحزب الله - لبنان وأفغانستان وفي تعريف الإرهاب (ثمان دول أوربية تختلف مع الولايات المتحدة في تعريف الإرهاب) وخصوصا أن الولايات المتحدة التي كانت تُعوّل كثيرا إلى ما قبل العام 2000 على سياسة مارتن آنداك التي أطلق عليها سياسة الاحتواء المزدوج Dual Contaninment الفاشلة تجاه العراق وإيران مازالت تطمح في خنق طهران باحتواءات سياسية واقتصادية مختلفة بغية عزلها وإضعافها من الداخل.

لذلك فإن طهران استغلت ذلك التباين السياسي الأنغلوساكسوني فلجأت للاستقواء باستراتيجيات أوروبا (القديمة) التي جرتها معها في وشائج سياسية وفكرية واقتصادية غائرة (توجد أكثر من 400 شركة ألمانية بقطاعات مختلفة على أرض إيران، كما أن 12 في المئة من واردات إيــــران الإلكترونية تأتيها من ألمانيا) جعلت من فك الارتباط بينهما خسارة مُوجعة للأوروبيين الأمر الذي أعطى سياسة الحوار النقدي Critical Dlalojue القائمة بينهما منذ مطلع التسعينات سمة الخيار الحتمي بعد أن تيقن الفرقاء أن الفكرة الأميركية قديمة استهلكت نفسها ولم يبق انتظار نفع منها أو حنين.

وعليه فإن إيران وبموافقتها على توقيع البرتوكول الإضافي وفق تصورها السياسي والفني والبراغماتي تحت المظلة الأوروبية أعطى دفعة أخرى من الصدقية لخيار الحوار النقدي وهو ما يُرجّح في نهاية الأمر كفة هذه السياسة على سياسات واشنطن الصِدامية.

3- استطاعت إيران أن تحتفظ بمكتسباتها المُهمّة في مجال التكنولوجيا النووية السلمية وعلى مصالحها القومية فهي من جهة أخرجت محطة بوشهر النووية من أية مناقشات أو مفاوضات تُجرى مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن جهة أخرى احتفظت لنفسها بإعادة البدء في تخصيب اليورانيوم عندما يُتَقرر إيقافـه من قِبَلِها في أي وقت تشاء كما ذكر ذلك صراحة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني حسن روحاني بحضور وزراء خارجية الدول الأوربية الثلاث (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا) بل زاد على ذلك المتحدث باسم الحكومة الإيرانية عبدالله رمضان زادة في مؤتمره الصحافي يوم الاثنين 28 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بأنه «لم يتم بعد تحديد موعد تعليق تلك النشاطات وأن توقيع جميع المعاهدات له مراحل قانونية يجب اجتيازها» كما أن اجتماع «مجمع تشخيص مصلحة النظام الإسلامي» الطارئ الذي عُقِدَ في 23 من شهر أكتوبر الماضي لمواصلة مناقشاته ودراساته للخطوط العريضة للخطة التنموية الرابعة في الشئون الثقافية والعلمية والتكنولوجيا تمّ التأكيد فيه أن إيران مازالت تتمسك بمشروعها النووي الطموح وضرورة تنظيم وتعبئة طاقات البلاد والبحوث والإنتاج وتشجيع التكنولوجيا والعلوم الجديدة في الإنتاج العلمي العالمي وتعزيز النهضة البرمجية ولاسيما التكنولوجيا الجديدة المتضمنة للتكنولوجيا البيئية والتكنولوجيا الدقيقة وتكنولوجيا المعلومات والاتصال والتكنولوجيا الجوية والفضائية والموارد الجديدة.

كما حصلت طهران (وهو الأهم من كل ذلك) على وعد مكتوب بتزويدها بالتكنولوجيا النووية من الغرب، وهو ما سيُشكل تحولاُ مهمّا في التقنية الإيرانية في المجال الذري إذ إن طهران لاتزال تعتمد بصورة رئيسية في ذلك على التقنية الروسية الأقل جودة عما هو موجود في الدول الغربية بسبب قّلة الموزانات المُخصصة للابحاث والمختبرات النووية في روسيا التي تُعاني أصلا من مشكلات اقتصادية مُهلِكَة وأخرى تتزود بها من السوق السوداء بأثمان باهظة ومُكلِفة، كما حصلت طهران على اعتراف دولي أممي وبالخصوص من أوروبا القديمة (كما سمّاها دونالد رامسفيلد) بحقها في اقتناء التكنولوجيا النووية السلمية.

4- إن إيران التي تعتبر مشروعها النووي السلمي خيارا استراتيجيا من الدرجة الأولى قد أوكلت مهمّة التفاوض بشأن ملفها النووي لأشد رجالات الحكم راديكالية والمحسوب تنظيميا على جمعية علماء الدين المناضلين (روحانيت مبارز) اليمينية المحافظة وهو الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي حسن روحاني، على رغم وجود الكثير من الشخصيات التفيذية ذات الصلة بالمجال النووي والإداري والدبلوماسي كرئيس الهيئة الوطنية الإيرانية للطاقة النووية ومستشار المرشد للشئون العلمية غلام رضا آغا زادة، وهو ما يُعطي إشارة مُهمّة الى أن إيران أرادت بذلك أن تتفاوض بالعصا الغليظة مع أندادها.

5- حاولت إيران أن تُعطي ملفها النووي المُفَاوَض بشأنه الصفة الوطنية الشاملة حين أدخلت جميع الأطراف الإجرائية والتشريعية ومؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وتجمعات طلابية ومجامع علمية واستذوقت رأيها عن معطيات ذلك الملف، وكان ذلك التحرك إجراء استراتيجيا احترازيا لأية مضاعفات كيفية قد تحدث مستقبلا ويمكن أن تضر بالمصالح العليا للدولة الإيرانية.

كما أن الحكومة الإيرانية لجأت أيضا لآراء فقهية حوزوية لمراجع دينية عليا أدلت برأيها في الموضوع، فكان رأي المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله السيد علي الخامنئي باعتباره مرجعا فقهيا كبيرا واضحا في ذلك وهو عدم جواز امتلاك أي سلاح فتّاك وأسلحة دمار شامل، وهو ما أعطى الموضوع صفة دينية ذات جنبات قدسية لا يمكن تخطيها ويمكن الوقوف على نتائجها ومدى تأثيرها على محيط الدولة الديني.

وأمام ذلك الدهاء الدبلوماسي الإيراني في إدارة ملفها النووي تكون طهران حافظت على مصالحها الاستراتيجية، ولعبت لعبة الكبار في الكر والفر إلاّ أن الأنظار ستبقى شاخصة باتجاه اجتماع مجلس الحكام التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية في 20 من نوفمبر /تشرين الثاني الجاري للبت في القرارات المتمخضة عن بيان اللقاء الرباعي في طهران بين الأخيرة ووزراء خارجية كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا الذين غادروا إيران 11 أكتوبر الماضي وخصوصا أن الكرة الآن باتت في مرمى الوكالة الدولية للطاقة الذرية

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 425 - الثلثاء 04 نوفمبر 2003م الموافق 09 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً