استدعت الإدارة المدنية للاحتلال الأميركي قطاعات عسكرية من الجيش العراقي للعمل معها ومعاونتها في حماية المناطق والدوريات التي تتعرض لهجمات من المقاومة. هذه الخطوة تعتبر تراجعا من جهة الموقف المبدئي الذي رفض التعامل مع المؤسسات المدنية والأمنية السابقة، ولكنه من جهة السياسة العملية يعتبر بداية انفتاح على الداخل العراقي ومحاولة للتصالح مع أدوات حكم النظام السابق.
الاستدعاء جاء ردا على الهجمات النوعية التي تعرض لها الاحتلال في الأسبوع الماضي وأدت إلى إسقاط مروحية قتل فيها 16 أميركيا بضربة واحدة، وهذا الرقم يعتبر الأعلى منذ الإعلان عن انتهاء العمليات الكبرى في الأول من مايو/ أيار الماضي.
والسؤال: هل استدعاء أدوات الحكم السابق للتعامل مع الاحتلال هو بداية تخلي الاحتلال عن رموز مجلس الحكم الانتقالي أم هو بداية انسحاب أو محاولة تجميع لقطاعات جيش الاحتلال في مناطق عسكرية (قواعد، مطارات، وثكنات) يصعب على المقاومة الوصول إليها وتوجيه ضربات ضد دورياتها وجنودها؟
الحديث عن الانسحاب سابق لأوانه؛ فالولايات المتحدة جاءت لتبقى ولن تنسحب قبل ترتيب أنظمة موالية لها وخاضعة لنفوذها. وكذلك لن تفكر بالانسحاب قبل ان تتأكد أنها باتت تسيطر على الاقتصاد وما يتفرع عنه من اتفاقات استثمارية تضمن احتكار الشركات الأميركية لإنتاج النفط وكل ما له صلة بالإعمار وحركة المواصلات والاتصالات.
الانسحاب ليس واردا الآن، ويرجح في هذا السياق ان يلجأ الاحتلال إلى إعادة تنظيم نفسه وترتيب صفوفه بإعادة تجميع قواته ووضعها في مناطق بعيدة تسمح بمراقبة التطورات وتتدخل عند الحاجة. وليس بالضرورة ان تبدأ عمليات التجميع في أسرع وقت، ولكن المحتمل ان تبدأ بها قريبا لتنتهي منها في فترة لا تتجاوز أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية المقبلة. فالتجميع بدلا من الانسحاب يعتبر نصف فشل ونصف نجاح وهذا كاف للرئيس الأميركي ليعلن أمام شعبه والعالم عن خبر مفرح ينتظره الرأي العام بعد سلسلة استطلاعات كشفت هبوطا متزايدا في شعبية المرشح الجمهوري للرئاسة.
التجميع نصف فشل وليس هزيمة. فهو يدل من جهة على ضعف في ضبط الوضع الأمني وتأمين الهدوء لشعب عانى الكثير من الإذلال والاستبداد ويؤكد من جهة أخرى ضعف رموز «مجلس الحكم الانتقالي» وعجزها عن تأمين غطاء محلي يستر القوات الأجنبية ويبرر وجودها. فمجلس الحكم ضعيف للغاية إلى درجة من الصعب أن نجد له ما يبرر وجوده لا من الناحية الرمزية ولا من الناحية السياسية. فالاحتلال منذ فوزه في المعركة العسكرية حاول جهده الاعتماد على قوة محلية استوردها معه من لندن وواشنطن كغطاء وطني لحملته الحربية على العراق ودول المحيط الاقليمي... فكانت النتيجة أن أعضاء المجلس اعتمدوا على الاحتلال لتبرير وجودهم في بغداد.
وأساس فشل مجلس الحكم في لعب دوره المرسوم له أميركيا يعود الى عاملين: الأول، رفض الشعب العراقي في غالبيته العظمى للاحتلال وممانعته لكل سياساته وتصوراته المحلية أو ضد الدول المجاورة لبلاد الرافدين. والثاني، فشل أعضاء المجلس في تمييز خطابهم السياسي عن خطاب الاحتلال. فخطاب المجلس هو نسخة طبق الأصل (مكررة) لكلام المحتل. وهذا ما أضعف صدقية أعضاء المجلس وكشفهم أمام الرأي العام بصفتهم مجرد أدوات استقدمت من الخارج لتغطية عمليات النهب والسرقات التي تتم باسم «الحرية» و«التحرير».
كان على أعضاء المجلس الانتقالي ورموزه العمل على تطوير خطابهم السياسي وتمييزه عن خطاب المحتل حتى تكون هناك بعض الاستقلالية في التوصيات والقرارات التي تعطي بعض القيمة لدور المجلس بعيدا عن الوصاية الأميركية.
وأدى تطابق الخطابين وتكرار اعضاء المجلس التصريحات الأميركية وترجمة ما يقول هذا المسئول الأميركي او ذاك إلى العربية والاكتفاء باستنساخ التبريرات والذرائع أعطى الانطباع لدى الرأي العام في العراق والعالمين العربي والاسلامي أن رموز المجلس مجرد «جواسيس» و«عملاء» وجهاز يعمل لدى المخابرات المركزية.
هذا الخطأ الفادح ربما لا يتحمل مسئوليته أعضاء مجلس الحكم الانتقالي وحدهم... والاحتمال المرجح أن يكون نتاج سياسة أميركية مكابرة أصيبت بالسُكْر في لحظات الفرح بالفوز على قوة إقليمية كانت تسيطر على دولة تملك الثروة والموقع الاستراتيجي.
الآن وبعد تسعة أشهر على الحرب ذهبت حالات السكر وبدأت واشنطن «تفكر» ولو متأخرة. وربما تأخر الصحوة جعل إدارة الاحتلال تستدعي قطاعات من الجيش العراقي لحماية مواقعها ودورياتها من هجمات المقاومة. إنها فكرة جديدة ومن يفكر مرة ليس بالضرورة أن يفكر دائما وفي كل المرات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 425 - الثلثاء 04 نوفمبر 2003م الموافق 09 رمضان 1424هـ