للإجابة عن هذا السؤال المؤرق لكثير من رجال الأعمال لدينا في البحرين، لابد لنا من نظرة موضوعية لهذه المسألة التي تبدو شائكة ولكنها ليست كذلك بالفعل على اعتبار أن قضية الأجور هذه يجب أن تدرس كما ذكرنا دائما بعناية وموضوعية وبعد نظر وبقليل من التجرد إن تعذر الكثير منه ربما نتيجة تفهمنا لطبيعة ومقومات سوق العمل المحلي في مملكة البحرين وما يكتنفها من عشوائية وتخبط لا تسأل عنه الحكومة فقط ولا حتى رجال الأعمال لوحدهم أيضا ولكن الذي يجب أن يسأل عنه هو كل هذا التراكم من الأخطاء والمسببات لغياب الرؤية الحقيقية المطلوبة لمستقبلنا الاقتصادي الذي مازال يتخبط وسط قرارات فردية كثيرا ما تجير لصالح طرف على حساب طرف أو عدة أطراف، بل إن تشعب المصالح وتعقيداتها ربما أفضى إلى كثير من انعدام الثقة بين شرائح رجال الأعمال ودوائر القرار الحكومي نظرا إلى تباعد الرؤى واختلاف التوجهات في كيفية إدارة العمل الاقتصادي على أسس من المصلحة الوطنية بعيدا عن مراكمة الثروات الخاصة وغياب الاهتمام بالشأن الاقتصادي العام بصورة عملية بدلا من الإكثار حتى التخمة لدى الجهات الرسمية وبعض شرائح القطاع التجاري والصناعي في الحديث عن نهضة اقتصادية واستقطاب للاستثمارات ومنذ عقود ولكننا لم نجد في واقع الأمر سوى سراب تخيلناه واقعا وكان عصيا على اللمس على أرض الواقع.
من هنا فهل تكفي نظرتنا الطوباوية الحالمة لاقتصادنا الصغير الحجم المحدود الموارد؟ وهل يكفي الحديث الجميل عن استقطاب الاستثمارات نحونا الذي كثيرا ما ضل دربه ليصب في دول الجوار من دون أن نسأل من هو المسئول؟ وما هو العمل المطلوب لوقف كل هذا النزيف بالنسبة إلى الفرص الاستثمارية التي كثيرا ما عشمنا بها إعلامنا الرسمي الذي فقد كثيرا من ذاكرته وسط كل هذا الصخب الذي بات لا يحتمل المزيد وبات يطلب الصدق ونقد الذات أكثر مما يطلب من أحلام اليقظة في الوقت الذي يفاجئنا الآخرون في المنطقة بخطوات تسبق الزمن وسط ذهولنا وتلكؤنا وانغماسنا في بيروقراطية لا تكف عن الحديث الممجوج والعاجز عن تحقيق إرادة الفعل؟
مناسبة هذا الحديث جاءت على خلفية استنهاض القطاع الخاص ممثلا بقياداته في معارضة مستمرة لا تهدأ لقضية لم تعرف الهدوء هي قضية الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص، نقول هذا الكلام ونحن نعي حجم الإحباط والتململ لدى شرائح القطاع الخاص في جدوى التوجه الرسمي نحو تعزيز التنمية الاقتصادية وانفراد الأخيرة بقرارات فوقية لا تحتمل التطبيق على الأرض نظرا إلى عدم جدواها وعدم قدرتها على الصمود بسبب غياب الأطراف الرئيسية الأخرى المتمثلة في رجال الأعمال وممثلي قوة العمل الذين عليهم تكمن مسئولية طرح مبادرات لا تهدأ بتصحيح الخلل المستمر في هيكلة اقتصادنا الوطني وإن هم استشعروا عجزا لتحقيق ذلك فعليهم بالاعتراف بذلك لمسببات نعرف نحن مسبقا بعضا منها ونجهل الكثير ولكننا حتما ويقينا نعرف أن هذا البلد برجالاته المخلصين - سواء من البرجوازية الوطنية أو من ممثلي العمال وكذلك الحكومة باعتبارهم شركاء رئيسيين في النهضة الاقتصادية - لقادرون على فتح حوار مستمر ومجد مع السلطة بشأن كيفية إدارة الاقتصاد الوطني وتصحيح إعوجاجاته، وأعتقد أن الوقت جد مناسب لظهور قيادات تمتلك القرار الصائب وجرأة الطرح والمماحكة باتجاه المصلحة الوطنية العليا. فليس مقبولا أن تظل استثمارات القطاع الخاص مبتعدة في أرض الله بعيدا عن أن تستقطب لدينا بصفة أولية من أجل القيام بنهضة وطنية واقتصادية، وليس معقولا أن تتباكى قيادات القطاع الخاص جراء هروب 20 مليون دينار سنويا في حال تطبيق الحد الأدنى للأجور وهي التي تستنكف مجرد العودة والانطلاق من هذه الأرض، أقول ذلك وأنا أتفهم هواجس رجال الأعمال ومشروعية استنكافهم ولكننا يجب ألا نستمرئ المراوحة بين المبادرة والتردد والأولى بنا أن نطرح الأسباب بوضوح أمام أصحاب القرار في الجهات الرسمية وحتى لدى السلطة التشريعية بعيدا عن التخوف من السقوط في مغبة الإقصاء والتهميش.
ولكي أعود إلى جوهر القضية التي أرى أنه على قيادات القطاع الخاص أن تعي أن قضية بحجم مسألة الحد الأدنى للأجور ليست بدعة أو مسألة فيها نظر كما يقال، فها هي الكثير من الدول الرأسمالية التي من بينها الولايات المتحدة الأميركية نفسها وضعت مفهوما محددا يقنن عملية تحديد الأجور منذ الثلاثينات من القرن الماضي، كما أن الأحزاب المتنافسة في الكثير من الدول الرأسمالية والغربية تنظر إلى مسألة الحد الأدنى للأجور على أنها عامل تنمية اجتماعية واقتصادية. الوضع ينطبق أيضا على مجموعة الدول الاسكندنافية وسياسات حزب العمال البريطاني وكثير من الدول الآسيوية التي من بينها سنغافورة وماليزيا وهاتان الأخيرتان كثيرا ما تغزلنا - نحن هنا في البحرين - بقصص نجاحهما الاقتصادية والاجتماعية من دون أن نسأل عن الأسباب التي كان من بينها الأجور وتحسين الأوضاع المعيشية التي يجب أن تكون لب المشكلة وبوصلتها، الحال ينطبق أيضا على بعض دول الجوار الخليجي التي لم تغفل قضية الأجور وأهمية تنظيمها على طريق تحقيق عدالة اجتماعية تنأى بالمجتمع بعيدا عن أسباب الاحتقان والتباعد والانقسام من دون تعزيز مسألة التمييز التي يجب أن تنطلق منها رؤيتنا الجديدة للفرد والجماعة كعوامل إنتاج وتطور مجتمع وليست عوامل انقسام وتشرذم وغياب للعدالة والحقوق والواجبات.
علينا أن نعترف حقيقة بأن أوضاعنا الاقتصادية الحالية ليست على ما يرام بل هي عرضة لكثير من المخاطر المحدقة في ظل توازنات إقليمية ودولية لم يعد لدينا حيلة تجاهها سوى أن نعيد النظر إلى الداخل وبصورة لا تحتمل الضبابية والكثير من البيروقراطية واضعين في الحسبان بوادر التشكل والتكتلات المصلحية التي يجب أن نجد لنا - كوطن - موقعا مهما فيها كوننا أصحاب تجارب اقتصادية وتنموية هي محل إشادة، وعلينا أن نبني عليها نجاحات لمستقبل التنمية الشاملة في بلادنا بعيدا عن التفاخر الفارغ والمضيع للوقت. إن غياب الحد الأدنى للأجور هو أحد أسباب الإرباكات الاجتماعية والتنموية لدينا فأسواقنا تشكو، وحدة الفقر إلى ازدياد والتراجع الاجتماعي وقوى التخلف تتحين الفرصة المواتية لتهميش طاقات ووعي الناس وجرهم إلى الخلف، كما أننا لا نريد لهذا الوطن المزيد من الاحتقانات الاجتماعية والأمنية الطارئة، وعليه فإن وجود نظام بل وسياسة ثابتة لمراجعة سياسات الأجور في بلادنا دوريا سيشكلان عاملي حفز حقيقيس لزيادة الإنتاج وفاعلية الأداء الاقتصادي وتنويع القاعدة الصناعية لدينا وإعداد الكفاءات الوطنية لتحمل مسئولياتها في صوغ المستقبل الاقتصادي للوطن، وعلينا أن نتذكر جيدا أن الدراسات المحلية الأخيرة والمستندة إلى الأرقام الفعلية لسوق العمل في مملكة البحرين قد أظهرت أن 2/3 من القادرين على العمل وعائلاتهم يعيشون تحت خط الفقر!
وبنظرة سريعة فإن هذا المعدل المرتفع للفقر لدينا كدولة في وسط إقليم غني بالنفط يعد مؤشرا خطيرا وخطيرا فعلا لأنه أولا سيتجه بالسوق والاقتصاد المحلي إلى ركود ربما يعقبه كساد أو أكاد أجزم أننا قد دخلنا فعلا في مثل هذا الركود الاقتصادي ودليلنا في هذا هو تواضع القوة الشرائية وضياع الطبقة الوسطى من المجتمع وهي المحرك الأساسي للنشاط الاقتصادي، في أي بلد واتجاهها نحو الطبقات الفقيرة ومواقع العوز. كل ذلك يجب ألا يفهم بأنه تشاؤم ونظرة سوداوية ولكنه فعلا واقع معاش لا سبيل أمامنا إلا بالدخول حثيثا إلى أعماقه ومحاولة تفكيك مسبباته ورصد الحلول العاجلة له بعيدا عن تزيين الواقع بشعارات وردية لن تزيدنا إلا إحباطا إن نحن استمرأنا الاستمرار فيه من دون وعي فتلك مسئولية أدبية على الجميع من نخب واقتصاديين ورجال سياسة ومثقفين ورجال أعمال وحكومة أن يبادروا بوضع حلول سريعة تتشارك فيها فئات وشخصيات وطنية واقتصادية بعيدا عن طرح مسألة التخوف المزمن من هروب الاستثمارات فقط لأننا بدأنا بطرح قضية وطنية مثل قضية الأجور ووضع سياسة مدروسة لها، لكل أولئك المتخوفين أقول إن الاستثمارات ستستوطن بلادنا فقط إن نحن فهمنا كيفية استقطابها والترويج لها عبر بوابة التشريعات والشفافية والخطط الاستراتيجية الواضحة والمدروسة، الاستثمارات لن تأتي إلى بلد يحكمه التخبط والعشوائية وإن أتت فإنها ستعود ثانية لأنها - أي الاستثمارات - تبحث عن عن ضمانات تتمثل في تشريعات وقوانين وسلطة قضائية ومرونة ومشاركة مجتمعية ووئام مجتمعي ونظرة ثاقبة للمستقبل ومعرفة ودراية بواقع العالم من حولنا بعيدا عن أن ندير اقتصادنا فقط بالنوايا والخطاب الجميل الذي كثيرا ما يفتقد العقل والبصيرة.
من هنا فإن الحاجة تبدو ماسة وملحة إلى وضع النقاط على الحروف بالنسبة إلى قضية اقتصادية ومعيشية طال انتظارها ألا وهي قضية الأجور التي هي محور المشكلة لدينا على رغم عدم جدية كل من القطاعين العام والخاص لدينا في الحديث بشأنها. أقولها صراحة: لابد لنا من وضع حد لتدهور أوضاعنا المعيشية وتطبيق نظريات الاقتصاد السياسي وتعضيد الطبقة الوسطى لمجتمعنا لتقوم بدورها المنتظر في عملية التنمية الشاملة، وطبيعي أن تكون هناك تبعات آنية لكل ذلك ولكنها حتما ستكون ذات هدف أسمى أرى أن على الحكومة والقطاع الخاص أن يتفهما بشكل جيد تقديم بعض التضحيات في سبيل تحقيق مستقبل أفضل، شريطة أن يتم التوافق بشأن استراتيجية وطنية تخدم مصالح الجميع من شعب وحكومة وتجار وصناعيين ويكون هدفها انتشال فئات وشرائح هذا المجتمع من الانحدار نحو مزيد من الفقر والعوز لحساب أمننا الاجتماعي أولا ولحساب مزيد من عوامل الازدهار الاقتصادي مبتعدين عن التشرذم والتشظي في متاهات وهوامش لا تسمن ولا تغني من جوع، وفي هذا الإطار فإنني أرى أن مسئولية السلطة التشريعية يجب أن تتحمل كل هذا الهمِّ الضاغط، وذلك ليس متعذرا إذا ما خلصت النوايا ووضعت البرامج وتم بالمقابل رفدها برؤية مجتمعية وحكومية تستجيب لهموم الناس وقضاياهم مقدرين جميعنا ومن موقع المسئولية أن هذا الوطن يجب أن يسير باتجاه المستقبل معتمدا على موارده المحدودة وعزيمة شعبه التي تضاهي الشمس وإخلاص رجالاته وحبهم للنهوض به وتنميته وتحصينه من الانعكاسات الخطيرة في مواجهة الفقر والتشرذم الاجتماعي ومناهضة انعكاسات العولمة وتحديات المنافسة الإقليمية والدولية التي تتطلب أن تنصب فيها الجهود الوطنية كافة في بوتقة العمل الدؤوب والمخلص من دون إقصاء لأحد من المشاركة في صناعة قرارنا الوطني والاقتصادي والتنموي
العدد 423 - الأحد 02 نوفمبر 2003م الموافق 07 رمضان 1424هـ