امتناع «وزير خارجية» العراق عن حضور اجتماع «قمة دول الجوار» في دمشق مثير للشفقة. فبعد ان طالب العراق بحضور اللقاء وايدت موقفه ثلاث دول عربية مشاركة، وجهت دمشق دعوة للحضور والمشاركة... وحين وصلته بادر «وزير الخارجية» بوضع شروط وامتنع عن الذهاب بذرائع «مضحكة». فالوزير بكل بساطة قال: ان الحكومة العراقية لا تقبل «الوصاية» و«التدخل في الشئون الداخلية». وأصر في مؤتمره الصحافي على «استقلالية القرار» ورفض ما يصدر من توصيات عن لقاء دمشق حتى قبل ان تباشر «دول الجوار» اجتماعاتها التمهيدية وتصدر قراراتها النهائية.
كلام «وزير خارجية» العراق هو حق يراد به باطل. فمن الناحية المجردة هو صحيح فليس من حق أية دولة التدخل في شئون الأخرى وفرض وصايتها وشروطها من دون اذن أو علم أو معرفة أو موافقة من الدولة المعنية بالموضوع.
فمثلا ليس من حق الولايات المتحدة ان تهاجم أفغانستان وتحتلها من دون اثباتات دامغة تدينها رسميا أو تحملها مسئولية هجمات 11 سبتمبر/ أيلول قبل انتهاء التحقيق. ومثلا أيضا لا يحق للولايات المتحدة ان تنتهك سيادة العراق وتخالف الاجماع الدولي في الأمم المتحدة ومجلس الأمن وتشن حربها التدميرية ضد بلد مستقل ودولة معترف بها. وأيضا وعلى سبيل المثال، لا يحق للولايات المتحدة ان تهدد إيران وسورية والسعودية وتثير الفتن السياسية وتزعزع استقرار المنطقة لتحقيق أهداف استراتيجية كبرى لها صلة بشركات (مافيات) النفط وتجار الأسلحة في البنتاغون. كذلك على سبيل المثال لا الحصر لا يحق للولايات المتحدة ان تحتل العراق وتستقدم معها مجموعة «مرتبة» من لندن وواشنطن وتفرضها على الشعب العراقي بقوة السلاح تارة باسم «المجلس الانتقالي» وطورا باسم «الحكومة العراقية».
كلام «وزير خارجية» العراق صحيح نظريا. وهو يجب ان يقال شرط ان يكون الهدف منه قول الحق. إلا ان المراد منه هو الباطل.
المشكلة ليست في نظرية الكلمات وانما في واقعيتها والجهة التي تصدر عنها. فالمجموعة العراقية الحاكمة في بغداد تنقصها الصدقية والشرعية. وهناك الكثير من الشكوك في اخلاصها. فالناس عموما تعرف من هم أعضاء «المجلس الانتقالي» ومن يمثلون وماذا يمثلون وعن مصالح من ينطقون ويدافعون؟
الخطأ في كلام «الوزير» هو من الناحية العملية، فهو يصدر عن جهة اعتلت الدبابة الأميركية ودخلت بغداد عنوة وسلبت ونهبت وحرقت كل مرتكزات الدولة ووثائقها وآثارها التاريخية لاخفاء معالم الجريمة وتسهيل امكانات الغزو الأجنبي والاختراق الإسرائيلي.
ومن الناحية العملية أيضا كل المعلومات تكشف عن شبهات كثيرة تحيط بأعضاء «مجلس الحكم الانتقالي» واتصالات وعلاقات مع جهات صهيونية في البنتاغون الأميركي.
كذلك، والحق يقال، ان الكثير من أعضاء «المجلس الانتقالي» و«الحكومة المعينة» لا يقطعون الخيط ولا يفطرون (هذا اذا صاموا) قبل استئذان الحاكم الإداري (العسكري) بول بريمر.
الحديث عن السيادة والاستقلال ورفض الوصاية والتدخل هو صحيح عموما. أما من جهة «مجلس الحكم الانتقالي» او «الحكومة المعينة» فهو من الأمور المضحكة والمخجلة والباطلة لسبب بسيط لأنه عديم الذكاء وقليل الحياء.
عديم الذكاء لأن المقاطعة ورفض الحضور يكشفان عن هيمنة أميركية مطلقة على تحركات أعضاء مجلس الحكم. فلو حضر «وزير الخارجية» لكان بامكانه القول انه يرفض الوصاية ويرفض التدخل في شئون العراق. فالكل يعلم ان حضوره كان سيعطي بعض المعنويات (والكرامة) لهيئة معينة من المحتل وتأتمر بأوامره.
هذا من جهة الذكاء. أما قلة الحياء فهي صدور التصريحات بأسلوب يذكر بتلك التصرفات «الصدامية» حين كان يتحدى ويتفلسف في وقت يعلم الكل انه غير قادر على فعل شيء سوى الكلام.
يبدو الآن ان صدام غادر الحكم ولم تغادر «الصدامية» أعضاء مجلس الحكم. فهم كما يبدو على صورته ومثاله، يعتدون بقوة غيرهم ويتحدون دول الجوار ويستفزونها كما فعل صدام طوال ثلاثة عقود. واختيار مجلس الحكم الانتقالي خيار العزلة والانكفاء واستعداء المحيط الاقليمي يدل على وجود اتجاهات أميركية شريرة تريد ابقاء المنطقة على «نار حامية» تمنعها من الاستقرار والتفاهم والتنسيق بينها لحماية أمنها ووحدتها من مخاطر لا يتردد بعض اشرار البنتاغون في اطلاقها.
امتناع «وزير خارجية» دولة عن حضور لقاء حق من حقوقه الا ان تذرع الوزير المعين بالاستقلال ورفض الوصاية فهو أمر مضحك ويثير الشفقة. فحين يصل الضحك على الناس إلى حدود اللامعقول تصبح الشفقة هي الرد المعقول
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 423 - الأحد 02 نوفمبر 2003م الموافق 07 رمضان 1424هـ