في الأيام التي يكثر فيها الحديث عن قضية التجنيس تحضر في ذهني مجموعة من المواقف المسرحية التي قدمتها قرية كرانة في مسابقة التمثيل الأولى 2002، وكنت فيها محكما إذ لحظت بريقا لمواهب مسرحية قادرة على صناعة تواصل ممتع مع الناس وقادرة على إيصال رؤاهم ومحاكاة آمالهم وآلامهم، لا من أجل الثرثرة الفارغة بل من أجل نقد هادف وتغير نحو الأفضل، وليت شعري... ما ذا يريد الفعل المسرحي في أبسط صوره غير هذه التلقائية الجميلة المعبرة قبل أن يتقولب في شكل مدارس ومناهج أو أيديولوجيات ميتة وأوهام مدعاة تبحث عن حيوات مسرحية تخلق من خلالها الألق الحالم في يوتوبيا مفقودة لا تأتي إلا في الطيف.
كان أول انطباع عن تلك الأعمال - التي استغرقت أسبوعا، ولكن تنظيمها أخذ أكثر من ذلك - أنها أعمال تحاكي قضايا الناس وهمومهم لذلك لم تحرم من كثافة الحضور الذي يفتقده الفعل المسرحي القريب من الحال الرمزية للمسرح الرسمي على مستوى المؤسسة الأدبية التي تشتكي عادة من ضعف الحضور وقلة التواصل الجماهيري، وليس أدل من ذلك على امتلاء قاعة المأتم وخارجه بالمتفرجين.
إنها مواقف مسرحية تناقش هم المواطن فالعبارات والقفشات والضحكات تستدعي القضايا الحارة المحرقة وهي من قبيل التجنيس، البطالة، الإسكان، الواسطة، الفساد الإداري، والإيماءات والإشارات ممتلئة بالهمزات واللمزات والضحكات السوداء التي تستحضر كثيرا من القضايا وهي لا تحتاج إلى مزيد من التعديد فهذه الأمور هي أمهات القضايا هذه الأيام.
وإن مناقشة المسرح لهذه القضايا ليدلل على عمق الإحساس بالانتماء الوطني عند هؤلاء الشباب الذين يحاولون مقاربة هذه المشكلات التي تحدق بالوطن والمواطن فليس مفهوم الانتماء الوطني والهوية تملقا كاذبا ومجرد ولاء مفرغ من المعنى بل إن الانتماء للوطن في أجلى صوره هو معرفة الحقوق والواجبات وممارستها والبحث في المشكلات التي يعاني منها الوطن والمشاركة السياسية للوصول إلى معيشة أفضل ومستقبل أجمل للذات وللجماعة.
ما أكثر قدرة المسرح على التعبير عن الكثير مما لا نستطيع التعبير عنه إلا بمساحات كبيرة من الكتابة، فيكفي أن يتلبس الممثل بصورة موظف والآخر في صورة مدير والآخر في صورة مواطن لنحكي عن قصة الفساد الإداري المستشري فنشخص المجرد ونجرد المشخص من غير المس بسلطة الرقابة التي تريد صون الذوات العالية المعصومة من الأخطاء في براءة وتلقائية لذيذة مضحكة إلى حد التشويق والإمتاع، ومن بساطة الفعل المسرحي على رغم صعوبته أن الطفل الصغير في تلقائيته وبراءته لا يجد أي عسر في ارتقاء هذا السلم الجميل.
إنه المسرح الذي يناقش هموم المواطن ويعكس بيئته فها هو المشهد عبارة عن أثاث مسرحي بسيط فالطريق ممثل في مجرد دكة عتبة بسيطة يجلس عليها أهل الحي... وإن تركيز المخرج على اتخاذ هذا الأثاث كخلفية للمشهد والانحراف عن غيره من أثاث وأدوات وألوان وزينة وشوارع ذات مصابيح وبهارج، لهو علامة فارقة ودالة تبين حال ضعف المواطن وضعف معيشته، وتمثل ذلك في إظهار المخرج ممثليه في شخصيات بسيطة جدا إذ جسد الممثل حسن ناصر شخصية مزارع بسيط يرتدي «فانيلة» بيضاء و«غترة» وهو مجرد فلاح فقير ورجل عجوز، وأما الممثل الآخر فهو جعفر ميرزا في دور شاب صغير وهو مواطن في بداية العمر يرى من قبله ومن هم أكبر منه سنا هذا هو حالهم مازالوا ينتظرون الإسكان فكيف سيكون حاله وأي أمل مقتول يعتمل في نفسه وأي طموح موؤد سيحركه، يسأله العجوز عن الأحوال وسبب جلوسه في قارعة الطريق واكفهرار وجهه فيحكي له قصة طلبه في الإسكان الذي مضى عليه ما مضى ومازال ينتظر الفرج، والرجل العجوز يصبره فيقول رحم الله زمان الأول نحوّط الأرض ونضع سعفتين على بعض فيكون المنزل، إن وجود هذا الرجل العجوز بأدواته الفلاحية وكلامه هذا حمل المشهد بدلالة مهمة هي أن من اعتمد على نفسه في عمله وسكناه ورزقه وقوت يومه لن يكون هذا حاله لذلك يترحم على زمنه ولكن أنى لعجلة الزمن أن تعود، وهل يترك لإنسان اليوم ما كان يفعله إنسان الأمس من حرية التصرف في قدره الذي أصبح الآن مربوطا بألف دائرة رسمية، ولا ندري كيف سيكون غدا بغير تحقيق الآمال الكبيرة الموعودة؟!.
وهنا ينفتح من هذا المشهد مشهد ثان على أثر حكاية الشاب للعجوز هكذا ينقلب الحال فمن العادة أن يحكي العجوز والشاب يستمع ولكن هذا الزمان أشاب الفتى وجعله يحكي عن مآسيه وانقلبت المقاييس فأصبح الشاب هو الذي يحكي والعجوز هو المستمع وتبادل الاثنان الوظيفة الفنية وهذه تقنية ذكية في هذا العمل تعكس الوعي بانقلاب المقاييس والاستنكار على هذه الحال.
إن خروج المشهد الثاني من رحم المشهد الأول على رغم أهميته يبين أن المشهد الأول هو تبرير للثاني وتمهيد له، والمشهد الثاني حال استذكار فالشاب يستذكر قصته مع الإسكان وهنا يقوم المخرج بوضع الشاب في المشهد الثاني بين مجموعة من المراجعين الذين ينتظرون أمام طاولة مكتوب عليها بخط ساذج سريع وواضح «موظف الإسكان» إمعانا في النقد الذي يقول للمشاهدين انظروا لقد وصل المواطنون وهم ينتظرون ويتكدسون أمام المكتب والموظف لم يصل بعد.
وهنا تدور الأحاديث بين هذا المواطن وزملائه الجدد في الجنسية لقد أصبح له زملاء في الإسكان من سورية ومن باكستان من هذا البلد ومن ذاك البلد، ومن هنا ومن هناك ومن... ومن... والذنب ليس ذنبهم فهم على باب الله مثله مثلهم، يطلبون الرزق وينشدون معيشة أفضل في أي مكان مثل بقية خلق الله، ولكن الذنب ذنب من (...).
بكل بساطة ومن غير أي حقد أوغل إنه مواطن بسيط وبكل طيبة قلب بحرينية يتحدث مع زملائه في الجنسية وزملائه في الهم عن الإسكان وانتظار الفرج إذ يحلم ببيت يضمه بعد أن ضمته هو وزوجته وأولاده وبناته حجرة واحدة فقط في بيت أبيه بيت العائلة فيسائلهم عن الأولاد والأهل فيخبر بأنهم قادمون في الأثر.
ويتواصل المشهد وتنملئ القاعة بالضحكات والقهقهات التلقائية حين يخرج من وسط الجمهور كاسرا حاجز التمثيل طفل يرتدي البشت والغترة يشق جموع الجالسين من المشاهدين إلى قسمين صانعا لنفسه طريقا والحارس الخاص أمامه يفسح له الطريق ويبعد عنه الناس إنه المسئول وحضر أخيرا وإن تجسيده مسرحيا في صورة طفل ليعكس الكثير من الدلالات التي هي ليست محصورة فقط في الإشارة إلى عدم القدرة على صناعة الفعل وإدارة القرار أو تغيير الواقع القاسي، ويدخل الطفل مكتبه ويظل ساكتا من غير أن ينبت ببنت شفة ببراءة تقترب من الابتسامة الطفولية وكأنه يكاد أن يضحك هو أو يضحك المشاهدون من شدة حبسه الابتسامة التي تكاد أن تشق فمه الصغير، ومثل هذا الدور الطفل ذو العشر سنوات مهدي سبت بكل تلقائية وبراءة تجلب التعاطف الخالص لدوره وتكرس النقد اللاذع من قبل اختيارات المخرج.
وفي المكتب الثاني إذ يجلس الموظف الآخر يدخل المواطنون الجدد بينما يطول انتظار ذلك الشاب، فيقوم الموظف بتوزيع قسائم البيوت عليهم ويدلهم على مناطق تلك البيوت والهبات لكنهم لا يدلون أي مكان في الوطن وكم يشتد الضحك بالمشاهدين حينما يأتي أحدهم متسائلا عن العنوان فيخبره بعد كد وتعب ونصب في الوصف والشرح بأن العنوان في الورقة فيشير إلى مكان ما فيها فيتأفف الموظف قائلا له هذا شعار البحرين وليس منطقة السكن فتنهال الضحكات من هنا وهناك ولكنه ضحك كالبكاء إنهم لا يعرفون حتى شكل الوطن، آخر بمجرد اتصال يحصل على بيت وآخر لا يعرف حتى التوقيع ولا يعرف أن يفرق بين العنوان وبين شعار الدولة نماذج مختلفة من الناس بأسماء مختلفة: التعديل السكاني، الموازنة السكانية، الإخلاص للوطن جلب الخبرات وأية خبرات والبعض لا يعرف الكتابة ولا القراءة ولا حتى شكل الوطن مجرد شعارات متعددة وعناوين عريضة مختلفة.
وثمة مشهد آخر في صورة فولكلورية تراثية جميلة فهو مشهد شبيه بليلة «القرقاعون أو القريقشون أو الناصفة حلاوة» إذ يجري رجل وسط المسرح ووراءه مجموعة من الناس أشبه بالجوقة المسرحية يتبعونه في كل مكان من منصة العرض يريدون ما في يده وهو يحمل وعاء (زبيل من خوص النخل) وهو يصيح جوازات جوازات وهم يلاحقونه من مكان إلى آخر وأخيرا أخذ يرمي لهم بالدفاتر الحمراء الجوازات وليس غريبا على المخرج أن يجعل الممثل نفسه الذي قدم شخصية الموظف في الإسكان هو الذي يقوم بشخصية الرجل الذي يوزع الجوازات وذلك لاتحاد الوظيفة الفنية ولإعطاء دلالة واحدة، إن مشهد جوازات جوازات - كما أسميه - مشهد رائع جدا ومتقن من حيث حركة الممثلين الشبيهة بالفولكور الشعبي بالإضافة إلى أن وضع الجوازات في «زبيل» وهي الآنية التي يبيع فيها الفلاح حصاده من الرطب أو غيره دلالة على الرخص وبخس الثمن و مثل هذا المشهد الحركي ببراعة الممثل عبدالجليل إبراهيم...
وفي النهاية يعود إلى منصة العرض الشاب والرجل العجوز في خطابية مباشرة تستنكر حال الصمت من قبل الجمهور مستخدما المخرج مرة أخرى تقنية كسر حاجز التمثيل وليت شعري هل كان ما سبق تمثيلا أم حقيقة مرة وخطابية مباشرة لا تتشح سوى ببعض الضحكات واللمزات القريبة من الواقع الماثل.
ثمة حديث لم أتعرض له هو أن هذا البريق في الموهبة والقدرة على التواصل ليس سببه حرارة القضايا المطروحة وانفعالية خطابها وإنما هي استعدادات وكفاءات حية تحتاج إلى صقل سواء على مستوى إتقان النص واحتوائه على الحساسية المسرحية أو على مستوى اهتمام هذه الجموع الشبابية بالأداة المسرحية وتطوير إمكاناتها والخروج من مستوى الهواية وملء الشاغر الاحتفالي والمناسباتي إلى تطوير الكفاءة وصقل الاستعداد
إقرأ أيضا لـ "حبيب حيدر"العدد 422 - السبت 01 نوفمبر 2003م الموافق 06 رمضان 1424هـ