مسألة توسيع «إسرائيل» الجدار الأمني (الفاصل العنصري) ومده على طول الحدود الشرقية للأردن جددت طرح السؤال عن مدى استعداد الدولة العبرية للتعايش مع المنطقة وقابليتها للتكيف مع حضارتها وتاريخها وثقافتها؟ فالجدار الذي تقيمه تل أبيب تحت عنوان: «مكافحة الارهاب» يغطي الكثير من العناوين التفصيلية. فالمشروع في النهاية ليس أمنيا وانما يعكس تلك المخاوف التاريخية المتوارثة ضد الآخر. ظاهر المشروع يركز على مسألة الأمن أما باطنه فهو خطة لعزل «اليهودي» عن «اللايهودي» وهو في جوهره يشكل انتكاسة تاريخية أو عودة إلى الوراء وتحديدا إلى تلك الاحياء المغلقة (الغيتو) التي كانت تعيش المجموعات اليهودية داخل اسوارها.
تحدث ماركس وليون ودويتشر عن تلك «الاسوار» ووجدوا فيها مجرد اشارات رمزية تعكس خصائص ذاك الدور الاقتصادي (الوظيفي) الذي تلعبه مجموعات بشرية في فترة تاريخية معينة. فالسور سيسقط بمجرد حصول تحولات بنيوية في العلاقات الرأسمالية. والعزلة مؤقتة لأنها اساسا لها صلة بالموقع الاقتصادي والوظيفة والدور (الشعب - الطبقة). وحين تتطور الرأسمالية وتنتقل من حال الى آخر يحصل الانفكاك ويبدأ الانقسام الداخلي في دور - وظيفة المجموعات البشرية (الدينية). فالانقسام هو بداية الاندماج وتوزع اجزاء الكتلة إلى فئات غير منسجمة في مصالحها.
تبين لاحقا ان نظريات الثلاثي صحيحة في منطقها الفلسفي - التاريخي الا انها لم تكن كذلك في سياقها الواقعي. فما حصل كان على عكس تلك المقولات الماركسية (الطبقية - الاقتصادية) اذ نجحت الصهيونية (المضادة للاندماج) في نقل «الغيتو» من الحي في أوروبا الى الدولة في فلسطين. وبات الغيتو (العزلة عن الآخر) هو دولة مغلقة تعيش في حالات قلق وتوتر وحروب مع محيط فلسطين.
راهن الثلاثي اليهودي اللايهودي (ماركس، ليون، ودويتشر) على التحولات التاريخية فحصل ما يشبه الانتقال من مكان إلى مكان من دون ان يكسر التحول الاقتصادي (الدور والوظائف) تلك العزلة (الاسوار المقفلة) التي تضرب الطوق حول مجموعات بشرية وتمنعها من التكيف والاندماج.
هذا لا يعني ان كل اليهود في العالم انتقلوا إلى فلسطين، كذلك لا يعني الأمر ان كل الغيتو الأوروبي (الاحياء المدينية) انتقل بقضه وقضيضه إلى غيتو الدولة في «الشرق الأوسط». فالغيتو الإسرائيلي لا يمثل سوى 18 في المئة من تعداد اليهود في العالم ولايزال حتى الآن أكثر من 80 في المئة من اليهود يعيشون كجماعات منعزلة خارج أسوار «الغيتويات» التي انهارت بعد الحرب العالمية الثانية أو كمواطنين اندمجوا في المجتمعات التي يعيشون فيها ويعتبرون دولتهم ليست «دولة الغيتو» في فلسطين.
هذا على الاقل يمكن ملاحظته من قراءة المشهد الخارجي لانقسامات المجموعات اليهودية اذ هناك من يرفض فكرة انشاء دولة «إسرائيل» ويرى فيها مؤامرة صهيونية على اليهود في العالم. وهناك مجموعات لاتزال ترى ان اقامتها في أية بقعة في العالم مجرد اقامة مؤقتة وهي تنتظر الفرصة السانحة للانتقال الى «أرض الميعاد» في حال توافرت الشروط الإنسانية لذلك. وعلى رغم الانقسام الذي احدثه التطور في المجموعات (الغيتويات) اليهودية في العالم فإن هناك قوى صهيونية متطرفة لاتزال تشجع وتدفع نحو ترحيل المزيد من المهاجرين اليهود للاقامة في «دولة الغيتو» في فلسطين وتحثهم على رفض الاندماج أو التكيف في مجتمعاتهم لأن ذلك - برأيهم - يخالف العقيدة ويمنع ظهور «المسيح المنتظر».
هناك مشكلة اذا. والمشكلة ليست في المسيحية أو أوروبا ولا في العرب والمسلمين. انها مشكلة يهودية - يهودية بدأت في أوروبا التي مارست الاضطهاد والملاحقة والتمييز في عصور مختلفة ثم انتقلت من هناك ولدوافع تاريخية - استعمارية إلى منطقة المشرق العربي. والصهيونية التي رفضت فكرة الاندماج لم تمانع في تكييف مشروعها الاستيطاني (غيتو الدولة) مع المشروعات الاستعمارية في عالم عربي يتمتع بموقع استراتيجي ويحتوي على ثروات هائلة من النفط.
مشكلة فلسطين اذا أكبر من فلسطين. فهذا الشعب كان ولايزال يدفع ثمن جرائم غيره منذ مئة سنة، وحتى الآن تصر «دولة الغيتو» على تحميله مسئولية عقدة تاريخية نقلت أو شحنت من أوروبا إلى فلسطين.
نعود الى السؤال: ماذا يعني جدار «إسرائيل»؟ هل هو مسألة أمنية فقط أم اعادة بناء اسوار العزلة (الغيتو) للفصل العنصري بين اليهودي واللايهودي والانغلاق عن المنطقة؟
الجواب في التاريخ لا الجغرافيا. والتاريخ يقول ان عقدة «الغيتو» انتقلت إلى فلسطين وتطورت من حي إلى دولة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 417 - الإثنين 27 أكتوبر 2003م الموافق 01 رمضان 1424هـ