قد يكون من التكرار القول ان بعض القوى الكبرى في هذا العالم تتعامل في علاقاتها الدولية بمكيالين، تبخس ميزان العدل حقه في الكيل العادل الذي لا تستقيم أمور هذا العالم من دونه، واذا كان التكرار، محل ضعف في اللغة، فانه محل قوة في ا لحجة والتذكير بها، اذا نفعت الذكرى، ولذلك فان تكرار حجته تأييدا للحق المرتبط بها، فلا يضيع حق يطالب به اصحابه، ولا يتساقط مع مرور الزمن، لا بفعل القانون ولا بترجيح كفة الشرع الدولي والعقل الانساني.
قد لا تحتاج إيران إلى صناعة قنبلة نووية وقد تكون بحاجة اليها لكننا نرجح عدم الحاجة لاسباب شتى من بينها عدم حاجة العالم اصلا إلى هذا السلام المدمر والفتاك، لكن إيران تحتاج إلى الأمن الاستراتيجي والتقدم العلمي التكنولوجي، الحاجة الأولى يقرها القانون الدولي، والحاجة الثانية أصبحت من ضروريات الحياة المعاصرة، بعد القفزات العالية التي حققها العلم والتكنولوجيا في ميادين الاستخدام لصالح الانسان اذا ما ربط هذا الاستخدام بما تعرضه العلوم من مصاحبة الاخلاق، وذلك درس ابتسمولوجي (معرفي) حققه العالم العربي والاسلامي، ثم ورثه الغرب والشرق - لكنه حاول - مع الفلسفة البراغماتية الاميركية، الفصل بين العلم والاخلاق المصاحبة له، لصالح ما تدعوه هذه الفلسفة بالمنفعة المبتغاة في نهاية المطاف والتي هي أساس الحكم العملي والنظري على الفعل الانساني.
لاشك في ان الأمن الإيراني على المستوى العام مصان إلى أبعد الحدود، لكنه وبقية العالم العربي الاسلامي مهدد على المستوى الاستراتيجي بالسلاح النووي الإسرائيلي ولعل هذا التهديد أكثر حساسية من الناحية التقنية من دول الجوار مع فلسطين، فالاسباب العملانية لاستخدام السلاح النووي في حرب اقليمية عن فلسطين أقل احتمالا منه في حال تصور حرب محتملة بين إيران والكيان الصهيوني، وهذا الأمر يجعل من القلق الأمني الإيراني قلقا مشروعا وجديا، لان «إسرائيل» تملك قوة نووية قادرة على استخدامها من البحر والبر والجو، وفق التصريحات العلنية الأخيرة لقادة العدو، وخصوصا أن هذه التصريحات ذهبت في ظل التوتر الاقليمي الراهن إلى التهديد علانية باستخدام هذا السلاح في أية حرب محتملة على إيران.
على رغم المخاطر الواقعية المرتبطة بامتلاك الكيان الصهيوني للسلاح النووي وبقية أنواع أسلحة الدمار الشامل، وكذلك بعدم وجود الوازع الذي يمنع استخدام هذا السلاح، فان العالم يغض الطرف عن هذا الخطر الاستراتيجي وينظر بعين واحدة، بدل النظر بالعينين، ولا يرى فرصة مناسبة لطرح الخطر الحقيقي المتحصل من امتلاك السلاح والتهديد باستخدامه. حتى ان المجتمع الدولي يبدو كالذي يصم آذانه ويغلق عينيه، فلا يسمع ولا يرى ما يدور حوله من مخاطر حقيقية في منطقة مهددة فعليا بدمار شامل، اذا ما نشبت حرب تقليدية، ألحقت هزيمة بدولة الكيان الصهيوني، التي خزنت سلاح الدمار الشامل لاستخدامه في وضعية الهزيمة العسكرية التقليدية، وإلا ما معنى ان تكون «إسرائيل» مدججة بالسلاح النووي؟ وما الفائدة الاستراتيجية لهذا السلاح؟ وما الوازع الذي يمنع ألا يستخدم في اللحظات الحرجة؟
لا تنظر الدول الكبرى إلى هذه الظاهرة الخطيرة في المنطقة وهي تتصرف على قاعدة بقاء «إسرائيل» خطرا نوويا محدقا، وتجريد الدول العربية والاسلامية من حقها في إقامة نوع من توازن الردع النووي، كما هو الحال بين الشرق والغرب ابان الحرب الباردة، أو كما هو الحال بين الجارتين النوويتين اللدودتين الهند وباكستان، وكذلك امثلة أخرى من عالم لا يبخل ضرب الامثال على مخاطر الحروب، في ظل توفر معطيات موضوعية لوجود واقعي لهذه المخاطر الصريحة.
هذا هو حال الدول الكبرى صاحبة القرار في مجلس الأمن الدولي الذي من مهماته الحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين والأمر مشابه في المؤسسات الدولية ذات الصلة، كالوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي لم تخل محاضر اجتماعاتها من بند يطالب بازاحة اخطار السلاح النووي الإسرائيلي، لكن هذا البند الدائم على جدول أعمال الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يعرف حتى الآن، مناقشة جدية واحدة، بل تكررت احالة الموضوع في كل مرة إلى اجتماعات لاحقة تعقدها الوكالة دوريا كل عام.
هل امتلاك «إسرائيل» للسلاح النووي قدر دولي لا مفك من قبوله وفرضه على الآخرين؟ وكيف يتصرف المهددون حتى الاعماق في مواجهة هذا الخطر؟ واين يكمن السر الدولي الذي يجعل من السلاح النووي الإسرائيلي السيف المسلط على العرب والمسلمين؟ وما قيمة الدعوات المتتالية إلى تنظيف العالم من امتلاك هذا السلاح، من الحروب المعروفة التي شنت تحت راية هذه الدعوات من دون خجل أو وجل؟
لقد أحسنت القيادة الإيرانية التصرف وإدارة مسألة العلاقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتفكيك الالغام من حولها ولتعيين منطق الصواب في مسألة ترهق الحوار الدولي الساخن، لكنها فتحت بتصرفها الصائب نوافذ جديدة لعقل العالم، حتى يستطيع ان يصل إلى الحقيقة وان ينظر «بالعينين» لا العين الواحدة إلى الواقع الدولي وما يشوبه من مخاطر، وذلك بتأكيد لغة الحوار في العلاقات الدولية، لعله يؤدي إلى حل أزمات مستعصية كالازمة الكوبية، أضافة إلى فتح عيون العالم على السلاح النووي الإسرائيلي.
ان الدبلوماسية العربية والدولية مطالبة ان تتحدث بصوت عال عن مخاطر السلاح النووي في الكيان الصهيوني، ولتسمع ذلك الدول الاوروبية التي اختارتها إيران، منبر إعلانها، وكذلك بقية دول العالم، المعنية بتنظيف هذا الكوكب من أسلحة الدمار الشامل، وخصوصا أن إيران قبلت مطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهي في موقع الدفاع عن منشآتها لاغراض سلمية.
لا تملك إيران سلاحا نوويا بل تملك تكنولوجيا نووية لاغراض سليمة، تحتاج اليها وهي دولة نامية، حثيثة الخطى في درب التقدم العلمي، وتحتاج إلى الطاقة النووية لاغراض البناء والتطور والتقدم الذي تمده العلوم المؤيدة بالاخلاق بكل أسباب القوة والانتاج.
حفظت إيران حقها في التقدم العلمي وفق قواعد الشرعية الدولية، فهل تحفظ هذه الشرعية الدولية حق إيران في الأمن الاستراتيجي المهدد، مع بقية العرب والمسلمين، بأسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية؟ تلك مسألة معلقة إلى حين يصبح العالم وقواه الكبرى قادرا على الكيل بميزان العدل. ان مستقبل الحياة في الشرق الاوسط لا يجد ضمانة كافية مع وجود الخطر النووي الإسرائيلي وخصوصا أن في مجتمع هذا الكيان الاستيطاني كل أسباب العقل للحذر من جنون العنصرية والعدوان.
ان من طبيعة الحياة ان تقيم توازنا، وقد آن للعرب والمسلمين ان يطرحوا مسألة الخطر النووي الإسرائيلي بجدية امام المحافل الدولية، والا بحثت هذه الحياة، في اشكالية الوجود، عن ردع مقابل في سباق التسلح
العدد 421 - الجمعة 31 أكتوبر 2003م الموافق 05 رمضان 1424هـ