في الحقيقة لم أسمع من قبل بمطربة اسمها نانسي عجرم لا لأنني متزمت أو لأنني لا أحب الطرب والوجوه الجميلة، حاشى لله. فالله جميل ويحب الجمال. فما بالي أنا الإنسان الضعيف أمام كل شيء جميل خصوصا كوني صحافيا من أهم آليات عمله رفاهة الحس فكيف إذا كانت هذه المطربة اللبنانية خلقها الله بهذا الجمال.
وحتى لا أتهم بجفاف الطبع والخروج على المألوف فإنني أعترف بأنني أعشق الأصوات التي خرجت من الساحة العربية ولم تعد... أعشق أغاني أم كلثوم التي كانت من ألحان محمد القصبجي ورياض السنباطي وسيد مكاوي قبل أن يلحن لها محمد عبدالوهاب على مقاساته هو لا مقاسات التخت الشرقي الجميل، وحتى لا أظلم الباقيات الصالحات فصوت وديع الصافي وفيروز وماجدة الرومي أصوات رائعة كذلك.
عشقت صوت نانسي عجرم بعد أن شاهدت صورتها وهي تقف بقرب أحد المشايخ التي نشرتها إحدى الصحف المحلية فإن صوتها مثل وجهها فلابد أن يكون جميلا.
كما يبدو بعض العناصر التي تعودت على الاحتجاجات تبحث عن سبب ما للخروج لأن لديهم استعدادا نفسيا لذلك وهم على استعداد دائم لتطبيق المثل القائل (من طق طبله قال آنه قبله)، ولم أجد موضوعا يتفق عليه الجميع. أقصد جميع العقلاء مثل إدانة ما حدث. فالمسألة لم تكن تستحق كل هذه الاحتجاجات وهذا العنف وهذا التكسير والاعتداء على سيارات الناس حتى بلغ بأحد الإخوة الخليجيين أن قال «إن ما جرى وصار يجري بعد عملية الانفتاح ومرحلة الحرية كاد يغير رأي جيرانكم من دول الخليج فيكم، لقد كنتم شعبا مضيافا هادئا وكان شعور الجميع بأن المواطن البحريني ودود وعطوف يرتاح الأجنبي في هذا البلد أكثر من أي بلد خليجي آخر فماذا حدث؟».
إنه ثمن الحرية أم ثمن تراكمات طويلة كان يمكن تجنبها لو تم علاجها منذ بدايات الاستقلال بوضع خطط تنموية ناجحة تشغل طابور العاطلين وتفسح المجال لإقامة المزيد من المراكز الثقافية والفنية والاجتماعية لينخرطوا فيها، ولو أن الشباب البحريني استمر على اهتماماته الفكرية والثقافية والأدبية والفنية مثل الستينات والسبعينات لما بلغ هذه الحال.
ولو أن القيادة لم تغير من توجهات المسيرة في أعقاب قيام الحياة النيابية في العام 1973 وتركت المجال واسعا أمام كل التيارات الثقافية لتعمل في الساحة لما جرى ما جرى ولما استولى على الشارع البحريني أصحاب التوجهات المتطرفة وأطياف تعودت قلب الحقائق باسم الدين فانجرف آلاف الشباب إليها.
وسارت الأمور كما يريدها أولئك وكما تريدها الولايات المتحدة وأوروبا التي كانت تهاب أي نمو للتوجه القومي الذي أعقب ظهور ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 وأي قوى يسارية أو فكر اشتراكي على اعتباره فكرا متمردا على التوجه الرأسمالي ومدعوما من الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية ما وضع حاجزا سميكا أمام تطور الفكر الليبرالي. وحتى حين أرادت واشنطن أن تشجع الفكر القومي أتت بنماذج يندم عليها المواطن العربي فدعمت نماذج رديئة للغاية حولت بلدانها إلى سجون للشعب وقضت على كل أشكال الحرية والتعدد الفكري فصارت أسوأ مثل للنموذج القومي والتوجه اليساري ما ساعد على بروز التوجه الآخر. وهذه سنة الحياة وقانون طبيعي أن انحسار فكر يشجع على بروز فكر جديد خصوصا إذا كان الطريق ممهدا له وهذا ما حدث على المستوى العربي والإسلامي عموما والخليجي خصوصا.
وكان يمكن للفكر الإسلامي الجديد لو قادته عناصر معتدلة أن ينمو نموا طبيعيا وحسنا، لكن المشكلة تكمن في أن الثقة كانت في هؤلاء الذين يختزلون الدين في التقيد الشديد بالشكليات من دون إبداء أية مرونة أو فتح الباب للاجتهاد والصعود إلى مستوى التطور الزمني ما أبقى الدين مقيدا في إطار ضيق لم يخدم الإسلام بقدر ما ضيق الخناق عليه، وجاءت الكارثة بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول حين وضعت أميركا الدين الإسلامي وحامليه من العرب في مرتبة الإرهاب والارهابيين.
وعندما أرادت الأنظمة العربية تحجيم المد الذي حدث كان القطار فات المحطة ما خلق هذا التشنج الحالي.
ووقعت بعض هذه الأنظمة في حرج كبير فهذا البعض هو الذي كان وراء نمو هذا الفكر وهو الذي دفعه دفعا لبلوغ هذا المستوى وصار من الصعب إعادة المارد إلى قمقمه وليس بإمكان أحد إعادة النضج والعقلنة إلى كثير من الشباب، منها عملية الخروج غير المبرر ضد المطربة نانسي التي صارت ضحية هذه الفئة من الشباب.
وفي بلد كالبحرين يحاول أن يبحث عن مجالات للتنمية والتطور الاقتصادي، ويعتبر السياحة أحد أشكال هذه التنمية، فإن هي تعرضت لهذه المواجهات بشكل متكرر من خلال عناصر غير مدركة لخطورة ما تقوم به والخسائر الناجمة عن هذه الأفعال غير المسئولة ستكون وبالا على مستقبله ومستقبل التنمية برمتها.
إن إلقاء اللوم على نائب من الإسلاميين لأنه أعلن بصراحة بأنه قام بالنصح مسبقا أمر غير منطقي أصلا، لأنه لم يدعو للمواجهة الساخنة والمواجهة اللاحضارية فقد اكتفى بنصح الجهات المسئولة مسبقا من خطورة هذه الاستضافة المرفوضة، أما الذين قاموا بالدور العملي هم فئة تعودت على القيام بمثل هذه الأعمال من دون حاجة لدعوتهم إلى ذلك. وفي اعتقادي أن المطربات الأخريات لا ينحدرن من أصول أخرى لتصبح نانسي وحدها التي تستحق المواجهة، ومع ذلك كان بالإمكان الأخذ بخاطر الناس خصوصا في بلد تعرف الجهات المسئولة أنه يعيش مرحلة انتقالية وأن تطالب الجهة المضيفة احترام مشاعر هؤلاء بعدم دعوة هذه المطربة. فالدنيا لا تنتهي إن لم تحضر هذه المطربة فهناك العشرات ممن لا يثرن الشارع الإسلامي وتؤدين الواجب وأكثر (شوية)؟ صحيح إن استمرار نمو هذا النوع من الشباب وتركهم بأن يقرروا من يدخل ومن يخرج ومن يجب التعامل معهم من المطربين والمطربات والراقصين والراقصات سيكون بمثابة كارثة وطعنا في خاصرة السياحة لكنه كان بالإمكان تجنب هذه المواجهة مادامت جهة الدعوة أدركت خطورة الوضع. فالجميع خسر من أجل مطربة كان يمكن الاستغناء عنها، وفازت وحدها بأكبر دعاية لها في الشرق الأوسط.
والبلاد خسرت من حيث تسبب ذلك في تخويف كثير من السياح، والبلبلة التي حدثت في الشارع البحريني بين مؤيد ومعارض، والطعن في عملية الانفتاح والحريات ما خلق وضعا صعبا وخصوصا أن هناك دولا خليجية سياحية قريبة لنا، تعوم على بحر من أمثال نانسي. فلماذا لا يحتج مشايخ الدين هناك أليسوا إسلاميين أم أن هناك إسلاميين واقعيين ويعلمون أن الله كفيل بمحاسبتهم وعليهم النصح فقط كما فعل النائب الإسلامي الملام، وفي اعتقادي أن النصح هو المطلوب فإن لم يفعلوا به فحساب ذلك عند الله سبحانه وتعالى قياسا بالآية الكريمة التي تقول «وما على الرسول إلى البلاغ المبين» (النور: 54)، إن مسئولية المشايخ والعلماء هو البلاغ والدعوة للتوجه السليم لا خلق الفتنة وإشعال النار، وإحراج الحكومة مما دعا أن تحسم الدولة في النهاية من خلال كلمات موزونة تنم عن احترام القيادة لرجالات الدولة ونوابها مع رغبتها في عدم التلاعب بالقانون. وجاء تصريح وزير الديوان الملكي الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة ليؤكد «توجيهات جلالته القاضية بترشيد السياحة في البلاد ستتواصل إلا أن هذا التطوير ينبغي ان يتم ضمن القانون دون تحريض أو تجاوز، سواء تعلق بالسياحة أو بغيرها، إننا نتفهم ونقدر ما أبداه عدد من الإخوة أعضاء مجلس النواب من حرص مخلص على ترشيد السياحة في المملكة تعبيرا عن مشاعر ناخبيهم من المواطنين، داعين في الوقت ذاته إلى التعاون البناء والمثمر من أجل التوصل إلى صيغ وأنظمة متطورة وكفيلة بتحقيق التوافق بين مختلف الاجتهادات والمصالح المشروعة». ولو أن الذين يقومون بهذه الأعمال الصبيانية تحت شعار المحافظة على الأخلاقيات الإسلامية في غير عصر الفضائيات لكان ذلك ربما مهضوما أما في هذا الزمان الذي تصل فيه المطربة نانسي عجرم وغيرها إلى كل المقاهي والبيوت والمجالس فإنه عمل غير منطقي ومرفوض، ولا يراد من ورائه إلا إثارة المشكلات بمناسبة أو غير مناسبة، وما أصدق المثل الشعبي الذي يقول: (اللي ما عنده عمل، إيكاري له يمل)
العدد 420 - الخميس 30 أكتوبر 2003م الموافق 04 رمضان 1424هـ